التنازل اليوم ضروري لاستمرار الحياة، لفتح أزمنة يكون فيها الإنسان سيد الموقف وصاحب الكلمة الريادة.. لم يعد هناك مجال للفرادة ولا للتفرد والتهميش والإلغاء، وثمة شباب يصنعون ثوارت، يكتبون زمناً أجد، يفتحون نهارات قابلة لأن تلتحق بركب النهوض الذي تأخر كثيراً بفعل بيروقراطية الفرد وتمسكه لأن يكون هو القادر القاهر.
هذه الصورة اليوم تتحطم في بلدان ذات أهمية كبرى ما كان لها أن تقع على شيء من هذا، الخيالي الذي بات واقعاً "تونس .. مصر"، ومازالت الأمور رهناً لشباب لإنجاز الثورة في أكثر من بلد، وماذا إذاً عنّا؟!
إن حركية التغيير لا نقول عنها حتمية حتى لا ندخل في إيدلوجيا الإجباري، لكننا نقول إنها قابلة للتموضع بقوة في حالة واحدة.. ألاّ يكون هناك من قبل الأطراف تنازلات من أجل الوطن وأن تبقى المسافة هي التوتر كله بين الفرقاء، وتكون الحشود الجماهيرية وأشكال المهرجانات هي التي تقدم نفسها بدلاً من تنازل لصالح وطن يوشك أن يكون أكثر من تونس حين تكون الفوضى كلها في حالة ضعف، لا يجيد فهما ولا قراءتها أرباب السياسة وصناع الأزمات.. من يرفضون التنازل ثم يصابون بخيبة أمل يسألون.. ما الذي جعلنا هكذا شديدي التمترس؟! ولما نحن في موقع البلادة التي كنا نظنها وطناً قابلاً للإمتلاك، وشيئاً قابلاً للأسر، وحكايات لا تنتهي من المغامرات والحماقات وفوضى الكلام وكلام الفوضى؟
أسئلة تطرق أبواب السعيدة بقوة وتجفل تماماً حين لا تجد من الإجابات غير الوقوع في المصيدة، لأن تنازلاً في صالح الوطن يدرأ عنه العذاب حين لا يكون للساسة هؤلاء مصالحهم الذاتية ويقبلون بأنفسهم وجهاً لوجه ليصيغون ما يريده الإنسان من تطلعات وأماني ورغبات يمانية.. وذلك ما يجعل للوطن صورة مشرقة بدلاً من هذا الكالح، الماحق، المدمر، الذي يجعل الأفق ضبابياً مغلقاً بالضجر ومليئاً بالسؤم، لأن مكابرة بين الساسة تجري، ومحاولة الغمز بسنارة هي التي تقدم نفسها ولا شيء يمكن أن يتحقق.. فالجميع قابلون بأن يرجعوا بخفي حنين ويصابون بالتائه من القول والتبرؤ من الزمان والمكان وافتراء حالة تدمير لا تبقي ولا تذر، قد تكون الحالة الوحيدة.. الأولى والأخيرة بمجرد أن تبدأ لن تنتهي إلا على السييء والسييء فقط..
فهل يقبل الساسة أن يكون للتنازل اليوم موقعه ومازال الوقت قابلاً للتصالح والتفاهم؟ هل يبلغّون الوطنية على الأهواء وبالتالي يقدمون التغيير إلى الأفضل؟ والتغيير المنشود بشراكة جماعية.. هل يتخلون عن عقد الإمتلاك والتحدي والحالة الشمشونية التي لم تعد تناسب العصر وإيقاعاته؟.. هل يخرجون من الإشتهاء النيروني في النظر بتلذذ إلى الوطن محترقاً إلى حالة بلوغ الاستنارة الكاملة لحوار يتسابق فيه المعنيون بالتنازل لنبقى نحن أكثر جمالاً وأصحاب انتصارات..
نتسأل وندعوا الله في السر والعلن أن يقينا مكراً وماكراً، وشر حاسد، وهواية مكابر، وتسلط من لا تسعفه الحكمة حين يجب أن تكون الحكمة.
المحرر السياسي
حين يجب أن يكون الحكمة 3107