عندما يتأمل الإنسان مجرى التاريخ، يدرك أن السياسة ليست مجرد تنازع على السلطة، بل هي سؤال عميق عن معنى الوجود الجماعي، عن القدرة على تخطي العشوائية والغلبة نحو بناء نظام يتجاوز الفردية العنيفة. إنها الفن الأسمى في ضبط المصير المشترك، حيث تصبح الدولة تعبيرًا عن إمكانية الإنسان للخروج من ظلام الفوضى إلى نور التنظيم.
لكن في اليمن، يبدو هذا الخروج مؤجلًا إلى ما لا نهاية. ليس لأن الإنسان اليمني غير قادر على صنع التاريخ، ولكن لأن التراكمات الاجتماعية والثقافية قد جعلت السياسة امتدادًا لحالة أزلية من التكرار، حيث لا يولد الجديد إلا ليحمل جينات القديم. وهنا تبرز الإشكالية الكبرى: كيف يمكن لبلد شهد تحولات عاصفة أن يبقى رهين عقلية ما قبل الدولة؟ وكيف يمكن لفعل ثوري، مهما كان راديكاليًا، أن يتحوّل إلى دورة جديدة من الاستبداد والتشرذم؟
الأحزاب القروية.. قشرة حديثة على بنية قديمة
حين سقط النظام القديم، بدا المشهد وكأن اليمن يقف على أعتاب قطيعة مع ماضيه السياسي، لكنه في الحقيقة كان يعيد إنتاج ذاته بوجوه جديدة. فالأحزاب التي تصدّرت المشهد لم تكن سوى قبائل سياسية ترتدي قناع الأيديولوجيا، لكنها تمارس السياسة بذات الأدوات التي عرفتها المجتمعات التقليدية: الولاء الشخصي، التحالفات الظرفية، والخطاب الذي يقدّم السلطة كغنيمة لا كمسؤولية تاريخية.
لم يكن هناك مشروع فكري حقيقي يتجاوز هذه البنية، بل إن محاولات تأسيس فكر سياسي جديد ظلت محصورة في دوائر نخبوية لم تستطع النفاذ إلى عمق المجتمع. وحتى تلك الأحزاب التي بدت متأثرة بمشاريع فكرية عابرة للحدود لم تخرج عن كونها تكييفًا سطحيًا لمفاهيم الحداثة السياسية، دون امتلاك القدرة على خلق تجربة محلية ذات أصالة فكرية.
اليمن والتاريخ المبتور.. غياب التراكم الفكري
لم تكن معاناة اليمن سياسية فحسب، بل كانت معاناة فكرية بامتياز. إذ يختلف مساره عن مسارات دول أخرى شهدت تشكّلات سياسية حديثة نتيجة احتكاكها المباشر بموجات الفكر الثوري الأوروبي، أو بحركات التحديث التي عرفها العالم العربي في القرن العشرين.
في سوريا ومصر، على سبيل المثال، شكّلت المدن الكبرى مراكز صراع فكري حول الدولة والمواطنة، بدءًا من مناقشات النخبة الإصلاحية في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى التشكيلات الحزبية ذات الرؤى المتباينة حول الحكم والديمقراطية. أما في اليمن، فقد ظل التفكير في الدولة متأخرًا، ليس بسبب غياب النخب تمامًا، ولكن لأن هذه النخب كانت تعمل ضمن فضاء تقليدي لا يسمح بولادة تيار فكري حقيقي قادر على مساءلة البنية العميقة للمجتمع.
التأسيس العنيف للسلطة.. عندما يكون السيف هو القانون
إذا كانت السياسة في جوهرها تأسيسًا للشرعية، فإن اليمن لم يعرف الشرعية السياسية إلا بوصفها امتدادًا للقوة. فمنذ الانقلابات العسكرية، مرورًا بالحروب الأهلية، وصولًا إلى لحظة الانهيار الشامل، ظل العنف هو اللغة الوحيدة التي تُكتب بها العقود السياسية.
لم تكن هناك محاولة جادة لبناء مفهوم جديد للسلطة يتجاوز منطق الغلبة، بل على العكس، جرت إعادة تدوير نفس الأنماط القديمة تحت مسميات مختلفة. فكل لحظة انتقال سياسي لم تكن سوى استبدال لطبقة حاكمة بأخرى، دون أن يُطرح السؤال الأهم: ما هي طبيعة الدولة التي نريد بناءها؟
هذا النمط من التأسيس العنيف جعل السياسة نفسها تُختزل في صراعات على البقاء، بدلًا من أن تكون عملية إعادة تشكيل للمجتمع وفق أسس عقلانية. وهكذا، لم تتحوّل الديمقراطية إلى ثقافة، بل ظلت مجرد أداة تُستخدم ظرفيًا، ثم يتم الالتفاف عليها بمجرد أن تصبح عقبة أمام أصحاب المصالح.
نخب بلا مشروع.. العمى السياسي والتبرير المستمر
كان يمكن للنخب اليمنية أن تلعب دورًا تاريخيًا في إعادة تعريف المجال السياسي، لكنها اختارت أن تبقى في موقع المتفرج، أو في أحسن الأحوال، المبرّر. لم يكن هناك جهد جاد لخلق خطاب سياسي جديد، بل انخرط الجميع في تبرير الفشل، وإلقاء اللوم على الخارج، أو على «القوى التقليدية» دون محاولة تفكيكها من الداخل.
وحتى عندما برزت محاولات لتقديم مشاريع بديلة، سرعان ما تم استقطابها داخل الصراعات الكبرى، فتحوّلت من قوى تغيير إلى أدوات تُستخدم في لعبة الهيمنة. لم يكن هناك من يمتلك الشجاعة الفكرية لمساءلة الموروث السياسي، بل ظل الجميع عالقًا في حلقة تكرار لا تنتهي، حيث يُعاد إنتاج الخطاب ذاته مع كل جولة جديدة من الصراع.
نحو قطيعة مع الماضي.. الدولة كإمكانية فكرية
إذا كان هناك مخرج من هذه الحلقة المفرغة، فإنه لا يكمن في البحث عن حلول ظرفية، بل في إعادة التفكير في الدولة كإمكانية فكرية قبل أن تكون كيانًا ماديًا. لا يمكن بناء نظام سياسي حديث دون تفكيك العقلية القبلية التي ما زالت تحكم المجال السياسي، ودون خلق فضاء يسمح بولادة نخب جديدة لا تكون مجرد امتداد للنظام القديم بأقنعة مختلفة.
إن أي محاولة جادة للخروج من الأزمة يجب أن تبدأ من سؤال جوهري: هل نريد دولة حديثة، أم مجرد سلطة تستمر بإعادة إنتاج ذاتها؟

السياسة ليست مجرد صراع على القوة، بل هي لحظة تأسيسية تحدد شكل المجتمع الذي نريد العيش فيه. واليمن، إذا أراد أن يكتب فصلًا جديدًا في تاريخه، عليه أن يبدأ بإعادة تعريف ذاته، لا كغنيمة تتنازعها القبائل والأحزاب، بل كفضاء مشترك يتسع للجميع، حيث يكون الانتماء للوطن أعلى من الولاء للأفراد والجماعات.
لعل الفيلسوف جان جاك روسو كان محقًا عندما قال: «يولد الإنسان حرًا، لكنه في كل مكان يرسف في الأغلال. لكن السؤال الحقيقي في الحالة اليمنية ليس فقط عن الأغلال التي تُكبّل الإنسان، بل عن استعداده لكسرها، وعن القدرة على إعادة تعريف معنى الحرية ذاتها في سياق سياسي لا يزال يرزح تحت ثقل التاريخ.