عند تعيين البريطاني مارتن غريفتس مبعوثاً أممياً إلى اليمن كان أول شيء قام به هو تجميع عدد كبير من العناصر السياسية والاجتماعية والمثقفين ودعاهم من مختلف بلاد العالم إلى لقاء في بريطانيا. كان يريد أن يقرأ «خارطة» المشكلة بواسطتهم. وكان ذكياً بما فيه الكفاية ليدرك، من خلال ذلك اللقاء، صعوبة مهمته من ناحية، وإمكانية العمل بقاعدة شيطنة الجميع من ناحية أخرى حتى تفتح أمامه هذه السياسة أبواباً لتبرير أي فشل قد يصل إليه. من خلال ذلك اللقاء أدرك أنه لا يوجد إثنان متفقان على طبيعة وجذر المشكلة حتى في نطاق المرجعية السياسية الواحدة، فالجميع يتحدثون بصورة أنيقة، لكنه لم يسمع غير أفكار عامة لا يلبث ان يستشف حجم التناقضات التي تحملها، وتوصل إلى الحقيقة الأولى وهي أن اليمنيين يعترفون بمشكلتهم، ولكنهم يتحايلون على تعريفها، مثلما يتحايلون على حلها. وقد يحتاج جل وقته لفك رموز هذا التحايل. كان هذا الاكتشاف، الذي توصل اليه في أول لقاء مباشر مع تلك النخب اليمنية، مذهلاً، وعلى ضوئه رسم برنامجه الذي استمر ثلاث سنوات، كان في كل محطة منه يزداد يقيناً أن ذلك اللقاء قد حدد مسارات عمله مختتماً مشواره بنتيجة أجزم أنه توصل إليها ويمكن استنتاجها من أحاديثه ومقابلاته وتقاريره وتصريحاته وهي أن اليمنيين يعانون لكنهم يتصرفون كأنبياء حينما تشتد المعاناة، ويتألمون ولكنهم يتصرفون كجلادين، ويريدون الحل ولكنهم يخافون أن يقتربوا منه، يتحدثون عن الخارج كثيراً ليبرروا انتظار الحل من الخارج. كان واضحاً أن هناك من اليمنيين من أوحى له بفكرة هذا اللقاء الذي كان له تأثير حاسم في تقرير منهج ومسار عمله. يحدث هذا الآن مع المبعوث السويدي هانز غروندبرج ولكن على نحو مختلف. قام البعض بتسريب أخبار عن تغيير رئيس الجمهورية في أسوأ تسريب لا يستشف منه غير ارباك المشهد السياسي ، لا سيما وأن التسريب قد جاء من داخل دوائر ملتحمة بمراكز القرار بروابط لا يقلل من قوتها الخلافات السياسية السطحية التي جاءت على لسان أطراف من نفس المرجعية السياسية التي ينتمي إليها الطرفان ( المسرب والمعترض) ، وكأننا أمام كرة يتقاذفها الطرفان في اتجاهين متناقضين ، لا يهم أين ستستقر في النهاية ، المهم إرباك المشهد بمجمله بما ذلك المسار الاستطلاعي للمبعوث الجديد الذي سيقرأ المشهد من خلال حملات مواقع التواصل الاجتماعي ، كما يخطط هؤلاء ، وما سيشكله ذلك من استفتاء عام ليس على قيادة الشرعية ، وإنما على رئيسها فقط ، وهو أمر يجعل المسألة تبدو وكأنها امتداد لطبخة موفمبك عندما كان الرئيس محتجزاً من قبل الحوثيين حينما تولى بعض قيادات حزب المؤتمر من المشاركين في النقاش يومذاك على عاتقهم مهمة التخلي عن الرئيس هادي كرسالة مصالحة مع الحوثيين . هذه الدوشة التي يصنعها البعض في أهم لحظة من لحظات الوعي بمخاطر ما يتعرض له اليمن من تدمير تعكس حجم الخراب الذي أصاب البعض ممن ظلوا يتسمون بالتوازن السياسي، لا لشيء إلا لأن هناك من مراكز النفوذ الإقليمي من يبحث عن مسارات يبقى فيها النظام الإيراني ومشروعه حاضراً في تقرير مصير اليمن ضمن توافقات تعكس موازين القوى والمصالح في هذه المنطقة. يرى هؤلاء أن خلق هذه البيئة السياسية المضطربة ستشكل إطاراً للمسار الذي سيعمل فيه المبعوث الجديد ليبدو الحل وكأنه مختزل في مسار واحد وهو نفس المقترح الذي قدمه الحوثيون في موفمبك يومذاك لنخلص إلى ما يسعى اليه الانقلابيون وهو لو أن مقترحهم يومذاك لقي قبولاً لما كانت الحرب، يعني الاعتراف بالانقلاب.
د.ياسين سعيد نعمان
اليمنيون يعانون كأنبياء..ويتألمون كجلادين 1114