- لعل من أبرز مشكلات الدعوة والأمة في توفر بل تنمر آفة (التدين المغشوش) ، وذلك لانبنائه على الجهل بالشرع ونصوصه وأصوله وقواعده ومقاصده والانحراف عن منهاجه وأخلاقه.
- والمؤسف أن هذا التدين الشكلي السطحي الأجوف، صار في واقعنا (ظاهرة منتشرة)، وفي بعض المناهج والمدارس العلمية (ثقافة راسخة)، فهو منهج فهم وسلوك متشبث في نفوس وعقول وواقع المبتلين به، ولم يعد ينحصر خطره على المتدين نفسه ، بل و على فهم وعلاقة المتدين بالحياة والناس وعلاقته بربه، حيث يصاب المتدين الجاهل بآفة (غرور التدين)، من حيث لايدري غالبا ، بل يحسن الظن بنفسه!!.
إِذا كنتَ لا تـدري ولم تكُ بالـذي
يسائلُ مَن يدري فكيفَ إِذن تَدْري؟
جَهِلْتَ ولم تعلـمُ بأنـكَ جاهلٌ
فمَن لي بأنْ تدري بأنكَ لا تدري!!
.- إن آفة هذه الآفة - كما سبق - ارتكازها على الجهل، فلاعجب أن يُعجب الجاهل بنفسه ويفتن بعبادته ويغتر بعلمه، فتتضخم عنده ال(أنا) وحب الذات، ثم يتكبر على غيره حد توهم ادعاء امتلاك الحقيقة فيزكي نفسه ويغمط مخالفيه فضلهم ويرى فضل نفسه عليهم ولايحرص على تهذيب النفس ولايقبل النصح ويضلل أهل العلم والمخالفين ويزدري المقصرين وينسى أن التوفيق من الله والعبرة بقبول العمل وبالخواتيم ،وقديما قيل:كلٌ يرى الناس بعين طبعه.
كم جاهلٍ متواضعٍ ستر التواضعُ جهلَه
ومميزٍ في علمه هدم التكبرُ فضلَه
فدع التكبرَ ما حييت ولا تصاحب أهلَه
فالكبرُ عيبٌ للفتى أبدًا يقبحُ فعله".
- ولاعجب - والحال هذه - أن تنزع من العلم والدعوة والعبادة لذتها وبركتها ، حيث لايكون لها تأثير إيجابي على القلب والنفس والحياة، بل ترتد مقاصدها سلبية عكسية على أصحابها.
إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَت
فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ
- وتأمل ماجاء في هذه الأحاديث الصحيحة من أحكام مخيفة : (لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.. بطر الحق وغمط الناس).
(إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكُهم) رواهما مسلم.
وعند البزار والطبراني وحسنه الألباني :
[ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه]،
فإذا كانت كل صفة من المذكورات مهلكة، فكيف بالثلاث مجتمعة؟
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته
ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ.
-وماكان لهذه الآفة والداء أن يعم بها البلاء فتنتشر انتشار الوباء إلا لغفلة المجتمع وتغافل العلماء، ولاختلال المناهج التربوية والتعليمية في معاهدنا ومراكزنا العلمية، حيث انبنت على السطحية دون التعمق في القواعد والمقاصد الشرعية، أو أضفت على التعليم أولوية على التربية والتزكية، وأسوأ من فساد التعليم فساد عقلية وأخلاق المعلم، فطالب العلم كما يأخذ عن شيخه منهج التعلم فهو يأخذ عنه منهج التعامل سلبا وإيجابا.
وإذا المعلّمُ لم يكـنْ عدلاً مشى
روحُ العدالةِ في الشبابِ ضـئيلا
وإذا المعلّمُ سـاءَ لحـظَ بصيـرةٍ
جاءتْ على يدِهِ البصائرُ حُـولا
وإذا أتى الإرشادُ من سببِ الهوى
ومن الغرور ِ فسَمِّهِ التضـليلا
وإذا أصيـبَ القومُ في أخلاقِـهمْ
فأقـمْ عليهـم مأتماً وعـويلا.
- وتكمن وتعظم خطورة هذا(التدين الشكلي) في كونه لايفسد دين وأخلاق صاحبه، بل ويدمر أيضا نهضة مجتمعه ويشوه صورة الدين
وعلمائه ودعاته الأخيار (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
- ولعله في مثل هذه الحال جاءت المقولة الشيوعية: (الدين أفيون الشعوب)، وهي مقولة أثيمة ، لكنها في التدين المحرف للكنيسة المعادية للعلوم الطبيعية والعلماء سليمة ، وقريب منها التدين المغشوش المرتكز على الخرافات كالذي عليه غلاة الرافضة والقبورية.
- وكما يجب أن يقف العلماء بمسؤولية ضد الانحرافات الدينية والأخلاقية، فهو الواجب عليهم أيضا تجاه مناهج التشدد التي يتبناها الغلاة الذين يحول تدينهم المغشوش والمغرور دون نهضة و حفظ مصالح البلاد والأمة الكلية.
- إن حقيقة الدين التي هدفت العقيدة والشريعة لتحقيقه يتلخص في عبودية الله (إلا ليعبدون) ، والعبادة - كما قال شيخ الإسلام - :(اسم جامع لكل مايحبه الله ويرضاه...)، وهي تشتمل- كما تدل عليه النصوص - على توحيده وعبادته واتباع رسله وشرعه وعلى عمارة الأرض وإقامة العدل ومكارم الأخلاق بالتواضع والبذل وتزكية النفس من أمراض الحسد والجشع والكبر والكذب وسوء الظن والظلم و تطهيرها من آثام الشرك بالله ثم عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام ،وقد لخصت الآية الكريمة مهام نبينا صلى الله عليه وسلم في التبليغ والتعليم والتزكية للنفوس،وذلك في قوله تعالى : (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والحكمة).
- وقد صح عند أحمد وهو في الصحيحة للألباني:(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)وعقد
ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين (2/307) فصلا مهما بعنوان : " الدين كله خلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين "
-وقد بين القرآن الكريم هذه المقاصد في بيان الحكمة من التشريعات الربانية ، فقال في الصلاة: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
وصح عند احمد وحسنه الألباني: (قال رجل يا رسول الله إن فلانة - يُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها - غير انها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال : هي في النار. قال : يا رسول الله؟ فإن فلانة - يُذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها - وإنها تَصدّق بالاثوار - أي القطع - من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال : هي في الجنة.
وقال في تشريع الصيام : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْل فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )، وقال في تشريع الزكاة :(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، وقال في تشريع الحج : ( فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ).
--وأخيرا، فمن المناسب هنا إيراد القصة المشهورة عن الخليفة عمر رضي الله عنه : حيث زكي رجل رجلا آخر في مجلسه. فقال له عمر: لعلّكَ جاره، فالجارُ أعلمُ النّاس بأخلاقِ جيرانه؟ لعلّكَ صاحبته في سَفرٍ، فالأسفار مكشفة للطباع؟ لعلّكَ تاجرتَ معه فعاملته بالدّرهمِ والدّينارِ، فالدّرهمُ والدّينار يكشفان معادن الرّجال؟والرجل يجيب في كل مرة :لالا فقال له عمر :لعلّك رأيته في المسجدِ يهزُّ رأسَه قائماً وقاعداً؟ فقال الرّجلُ: أجل. فقال عمر: اجلسْ فإنّكَ لا تعرفه.
والمعنى - أحبتنا - أن الدين حسن الخلق والمعاملة ، فهو ليس مجرد مظاهر وشعائر أو طقوس وحركات ليس لها تأثير على القلب والحياة، فالتدين المحمود كما يعنى بالشكل والمظهر، فهو يعنى بصورة أكبر بالمضمون والجوهر( إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ " رواه مسلم.
- فالقلوب محل نظر الرحمن، وقد ورد في الصحيح :(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه.
-ولا اشك أنه لاأخطر من الكفر الصريح الا الإيمان الكاذب، ولامن معاصي الجوارح الا معاصي النفوس.
- فإن لم يظهر التدين في أخلاقنا وتعاملنا مع ربنا ثم مع آبائنا وأولادنا وأزواجنا وأرحامنا ومع من حولنا، فلنراجع فهمنا لديننا ولانلوم الا أنفسنا عن سبب ضعفنا وتفرقنا وتخلفنا وخذلان الرب لنا.
- واللهَ نسأل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والتوفيق والسداد والقبول وأن يبصرنا بعيوبنا ويعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.. آمين.