قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا، واعبدوا ربكم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون). [الحج: 18].
* جمعت الآية الكريمة بين الأمر بأداء حق الله بالصلاة وحق عباده بفعل الخير.
* وفعل الخير من محاسن الأخلاق العالية الرفيعة التي حث عليها الشرع وندب إليها،
وقد تواترت النصوص ببيان ارتباط باب الأخلاق بباب الإيمان، ومنها حديث الصحيحين : (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه)، والمقصود منه طلب المساواة التي بها تحصل المحبة، وتدوم الألفة بين الناس، وتنتظم أحوالهم.
وعند الطبراني وصححه الذهبي والألباني:
(ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)؛ وذلك لأنه يدل على قسوة قلبه وكثرة شحه وسقوط مروءته ودناءة طبعه.
* مدلول(فعل الخير) يشمل الطاعات الواجبة والمستحبة، الحسية والمعنوية، فلاينحصر في بذل الصدقة وإن كانت (الصدقة برهان)، أي على صدق الإيمان، بل ويشمل كل مايحقق (جلب المنفعة ودفع المضرة) عن الفرد والمجتمع، كبذل النصيحة والتعليم والشفاعة ونصرة المظلوم والمشورة وإدخال السرور وكشف الهموم والسعي إلى قضاء الحوائج وجبر الخواطر منجاة من المخاطر، وأفضل المعروف كما يقال - إغاثة الملهوف.
وفي صحيح الجامع (أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ، أَحَبُّ إليَّ من أن أعتكِفَ في هذا المسجدِ – يعني: مسجدَ المدينةِ - شهرًا).
* وتتفاضل أعمال الخير باختلاف قدرات الشخص والحال وبحسب عموم نفعها وأثرها على القلب والناس والحياة.
* وتتأكد هذه العبادة العظيمة في مثل الظروف الأليمة التي تمر بها بلدان المسلمين المنكوبة بالحروب وآثارها السيئة؛ حيث توحش الكثير من الناس فضلا عن تغول أهل الفساد لانعدام الغيرة والضمير و ضعف الوازع الأخلاقي والديني،حين ضعفت هيبة الدولة وبالتالي سلطة القانون وغياب الأمن الداخلي والسلم الاجتماعي، وانتشرت ظواهر الجهل والطمع و الفقر؛ مما يستفز ويستنهض همم أهل الغيرة والعلم والإحسان لإصلاح مادمره الفساد ودمرته الحرب ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلِمُه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة) رواه البخاري ومسلم.
* والعجب لاينقضي من تأمل هذا الحديث القدسي: ( إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدته لوجدتني عنده)؟! ... وذكر مثل ذلك في قوله (استطعمتك.. واستسقيتك..) رواه مسلم.
* ومن الملاحظ فإننا نجد كثيرا من الناس حتى بعض أهل العبادة منهم يحرصون على العبادات القاصر أجرها على الشخص لكنهم ينفرون من العبادات المتعدي نفعها وأثرها للآخرين من أعمال الخير؛ لمشقتها على النفوس وحاجتها إلى عناصر البذل والتضحية كالصدقة والحسبة.
( إنَّ من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر... فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه) الصحيحة للألباني.
*ولما كانت هذه العبادة من أبرز شعائر الإسلام كما وهي فيما لمسته خديجة من أبرز خصال النبي عليه الصلاة والسلام فقد أيقنت بأنها من دلائل نبوته وعون الرب له وحفظه في نفسه وعقله ، وقالت للنبي حين جاءها خائفا يطلب أن يدثروه ويزملوه : (كلا، والله مايخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)رواه البخاري ومسلم.
* ولقد كان من جميل خلقه ولطفه ورحمته وتواضعه مع الضعفاء أنه صلى الله عليه وسلم (كانت تأتيه الجارية فيخلو معها في بعض الطريق، فلا تنصرف حتى يقضي لها حاجتها ) أي ماتحتاج، رواه مسلم.
ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم لعبد يقال له مغيث حين فارقته زوجه بَرِيرَةَ بعد عتقها من عائشة ، قال ابن عباس: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ ، يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ !! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبريرة:( لَوْ رَاجَعْتِهِ ! قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ )رواه البخاري.
* وعليه فليس فعل الخير كما يتوهمه البعض أمرا هامشيا، بل هو من مقاصد الشريعة وصلاح الحياة واستقرار أحوال الناس وانتشار الدعوة وقبولها، وحسبنا تنازل الأنصار للمهاجرين بأموالهم حين آخى بينهم رسول الله في المدينة (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
فالشح: هو الإمساك عن فعل الخير، وشيوعه في المجتمع كثقافة وسلوك مشروع هلاك عام بدليل ماجاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم : (وَاتَّقُوا الشُّحَّ ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ).
* وما أحسن قول أبي الفتح البستي في نونيته:
وكُنْ علـى الدَّهر مِعواناً لـذي أمَلٍ
يَرجـو نَداكَ فإنَّ الحُـرَّ مِعْـوانُ
أحسِنْ إلـى النّـاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ
فطالَمـا استعبدَ الإنسـانَ إحسانُ
مـن كان للخير منّاعـا فليس لـه
علـى الحقيقة إخـوان وأخدانُ.
فاللهم وفقنا لعمل الخير خالصا لوجهك الكريم
لتحصيل عظيم ثوابك ورضاك والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، وتقبل منا يارب العالمين.
16/6/1441.
10/2/2020.