# الإنسان بدليل الواقع ونص القرآن مطبوع على النقص والظلم والجهل والعصيان، وليس الغريب وجود الشبهات (الانحرافات الفكرية) والشهوات (الانحرافات الأخلاقية)، فوجودها سنة إلهية كونية (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) رواه مسلم.
وليست المسؤولية في كراهية العصاة ولكن في كراهية المعاصي والتعامل معها بمقتضى اخلاق الستر والرفق والرحمة وان نتعامل مع النفس والآخرين بتواضع وحكمة فمن منا يدعي العصمة عن الأخطاء والعيوب و المعاصي مما قل منها أو كثر أو خفي او ظهر؟ ومن يضمن قبول الرب تعالى لعمله او يضمن حسن الخاتمة؟ ومن جميل المواعظ: (رب طاعة أورثت عجبا واستكبارا ورب معصية أورثت ذلا وانكسارا، وإن أنين المستغفرين أحب إلى الله من زجل المسبحين).
ربما كانت معصية الكبر واحتقار العصاة أسوأ من ارتكاب المعصية نفسها وصح عند مسلم:(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)؛ ذلك لأن المتكبر ينازع الرب ذا الجبروت والملكوت في أخص صفاته (وله الكبرياء، في السماوات والأرض)، وصح عند مسلم أيضاً في الحديث القدسي(الكبرياء، ردائي والعز إزاري، فمن نازعني فيها عذبته)،والمتكبر يرى فضل نفسه وكمالها على غيره ويقنط الناس من رحمته فكان اكثر منهم هلاكا بكبره،ولذا صح عند مسلم أيضا: (من قال هلك الناس، فهو أهلكهم)على روايتي ضم الكاف وفتحها اي فهو أشدهم هلاكا بسبب تكبره على الخلق، أو سبب هلاكهم بتقنيطهم من رحمة الخالق.
# ولا يقل خطاب التقنيط من رحمة الله عن خطاب الكبر والتعالي عليهم في مخالفة الشرع وما تضمنه من فريضة تزكية النفس ومعرفة الرب، بل فيه زيادة سوء الظن بالله تعالى والصد عن الطاعة وقطع الطريق عن التوبة، فلا ينبغي للعبد أن ييأس أو ينهار مهما عظم الذنب وأوغل فيه العبد بإسراف وإصرار.
#وللأسف فما زال بعض الدعاة يتعاملون مع الناس بالإفراط في النكير بعيدا عن قواعد الشرع القائمة على رفع الحرج وعلى التيسير والإلزام في الأحكام بالقول الواحد ولو خالف الدليل او قول الجماهير وكذا الانطلاق عن ذهنية التحريم وأحكام التفسيق والهجر والتبديع، وربما الميل إلى التكفير بغير هدى من الله أو كتاب منير، مما أسهم في التنفير وأفقد الصحوة جانبا كبيرا من قبولها و شمولها واعتدالها لاسيما حين شغلت نفسها بالصراع المرير مع بعضها ومع الأنظمة فألحق بها الضرر الكبير.
# لاشك فإن خطاب الرجاء والترغيب لا يلغي بحال أبداً شرعية وأهمية أسلوب التخويف والترهيب، بل فإن الجمع بينهما فريضة وضرورة
( وخافون إن كنتم مؤمنين) والقرآن (مثاني) يجمع غالبا بين حال المؤمنين ومصيرهم والكافرين ومصيرهم (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) (اعلموا أن الله سريع العقاب وأن الله غفور رحيم)،وقد ورد عن ابن مسعود فيما رواه احمد قوله:(ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم الخشية)، فمن كان بالله أعرف كان له أتقى ومنه أخوف ولعبادته أطلب وعن معصيته أبعد (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
# و قد مثلت سيرته العطرة تجسيدا لرسالة الرحمة والخلق العظيم والأسوة الحسنة، وسر الكمال البشري في ذلك والعظمة ترجيح خطاب الترغيب على الترهيب والرجاء على التخويف والإقناع على التكلف والتعسف. وحسبنا في بيان ذلك الأحاديث التالية فلنتأمل:
١/ روى أحمد وصححه الألباني (أن شابا جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا، فعظم الناس عليه لكنه صلى الله عليه وسلم ترفق به وقال له: أفتحبه -أي الزنا لأمك..لابنتك.. لأختك.. لخالتك؟ وهو يقول في كل مرة:لا، فداك أبي وأمي يا رسول الله، فقال له: فكذلك الناس لا يحبونه..) ثم وضع يده عليه وقال :اللهم اغفر ذنبه و طهر قلبه وحصن فرجه).
فلاحظ كيف أصغى صلى الله عليه وسلم للشاب بلطف رغم شناعة طلبه، ولم ينهره وجمع في علاجه بين خطابي العقل (الحوار) والعاطفة (حيث أدناه ووضع يده الشريفة على صدره ودعا له).
٢/ وفي الصحيحين (شكا إليه رجل أنه أصاب من امرأة قبلة - وفي رواية: شيئاً دون الفاحشة -وفي رواية :حدا -،فأنزل تعالى قوله:(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) فقال له: هل حضرت الصلاة معنا؟ فقال: نعم. قال: قد غفر لك حقا).. وذكر له أن عموم الآية للناس كآفة وليست للرجل خاصة. فلاحظ كيف لم يشنع عليه صلى الله عليه وسلم ولم يعزره عقوبة له، كما ولم يسأل عن المرأة سترا عليها، بل بشره بمحو حسنة الصلاة لسيئة المعصية.
٣/ وما جاء في البخاري في قصة الصحابي الذي (كان يقام عليه حد الخمر لإدمانه، فقال بعضهم؛( لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به) قال صلى الله عليه وسلم:(لا تعينوا الشيطان على أخيكم، فو الله، ما علمت إنه يحب الله ورسوله). ودعا إلى (تبكيته والاستغفار له) والتبكيت هو اللوم وتقبيح الفعل. والملاحظ، أن المذنب أيضا صحابي كان النبي يمازحه رغم معاقرته للخمرة والتي لعنها النبي وصاحبها و عدها القرآن (رجس من عمل الشيطان) وهي أم الكبائر وعَرَق أهل النار وكان الرجل مصرا و مدمنا عليها وفي عهده ولم ينزجر رغم تكرر العقوبة..
٤/ وفي البخاري في حجة الوداع كان الفضل بن عباس يبادل النظر امرأة خثعمية وضيئة جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأخذ بذقنه يصرفه عن النظر إليها ثلاث مرات )،والملاحظ مراعاته صلى الله عليه وسلم للضعف البشري وكون الخطأ صدر عن صحابي وفي أيام الحج وفي حضرة النبي ولم ينزجر رغم تكرر صرفه ثم إنكار النبي عليه برفق، واكتفاؤه بصرف وجهه من غير سب او عقوبة أو زعم انه (سقط من عينه) على حد التعبير الشائع الشنيع.
٥/ وفي صحيح سنن ابي داود في (قصة ماعز الأسلمي وإقراره بالزنى على نفسه بقوله: أصبت حدا فطهرني)، والملاحظ أنه صلى الله عليه وسلم لم يشنع او يعجل في الحكم عليه حتى استنطقه أربع مرات رابعها بصريح العبارة بفعل المعاشرة، بل وبخ الصحابة على قتله بعد فراره حين رأى مس الحجارة، وقالَ لهم: (هلَّا ترَكْتُموهُ لعلَّهُ أن يتوبَ فيتوبَ اللَّهُ عليهِ) ؛ ذلك أن الشرع يتشوف ما أمكن للمسامحة والعذر والتوبة لا العقوبة والانتقام.
٦/ وفي الصحيحين (أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "دَعُوهُ وَلاَ تُزْرِمُوهُ" - أي لا تقطعوا عليه بولته - قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ.
وفي رواية لمسلم: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ هذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله - عزّ وجل -، وَالصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ".
وعند البخاري بنحوه وفيه : (فإنما بُعِثتم مُيسِّرين ولم تُبعثوا مُعسرين)، والملاحظ انه لم يزجره بل زجر من زجروه وتركه حتى يفرغ ثم نصحه برفق مراعاة لجهله و معللا له الحكم الشرع مخاطبة لعقله، ودفعا لمفسدة الضرر الصحي به و التنفير له والتقذير لثيابه والمسجد.
#إنها دعوة للجمع بين خطابي الترغيب والترهيب والحذر من المبالغة في الترهيب؛ منعا من تقنيط الناس برحمة ربهم وحذرا من تصوير الخالق بخلاف ما دلت عليه أسماؤه الحسنى وصفاته المثلى، وكأنه -جل جلاله - يتشوف للانتقام من خلقه.
فالأصل -أحبتي- ترجيح محبة الرب على الخوف منه في القلب؛ فالخوف مقصود لغيره، بينما الحب مراد لذاته، والرجاء قريب من الحب، فالرجاء حادٍ يحدو القُلوب إلى محبة وتعظيم الرب ويُطيًب لها السير والعمل للدار الآخرة ويملا القلب بالثقة بِجود فضل الربِّ و النَّظر إلى سعة رحمته والأمل والتفاؤل وحسن الظن به سبحانه.
الله أكبر ولله الحمد وصدق الله:(مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا).
4صفر1441
3أكتوبر 2019