قبل خمسة أعوام من الآن، كان اليمنيون قد أنجزوا أعظم ملحمة وطنية في تأريخهم. فبعد عشرة أشهر استغرقها أكبر تجمع تأريخي للحوار بين الفرقاء السياسيين في البلد، كانت مسوّدة مخرجات الحوار شبه مكتملة. في تلك اللحظات كانت اليمن على عتبة تحول تأريخي كبير، انتقال يهدف لإصلاح أعطاب النظام السياسي وإحدث قطيعة مع الماضي بكل مخلفاته. تلك الإجراءات، التي انتظرها اليمنيون كثيرًا، كانت بمثابة نقطة فارقة ستعيد رسم شكل الدولة ومستقبلها على نحو مختلف؛ لكن الأمور أجهضت في ليلة وضحاها !! حدث ذلك، في لحظة تواطؤ تأريخي أعاد كل شيء إلى نقطة الصفر، وأدخل البلد في حالة تيه كبيرة ما زالت عالقة فيها حتى اللحظة. فلماذا حدث ما حدث؟ وما الأسباب التاريخية لهذا الانقلاب؟ وظروفه الموضوعية، والبعد الإقليمي فيه..؟! الجذور التاريخية للانقلاب على مخرجات الحوار ثمة أسباب ظرفية ومعروفة، استغلتها الأطراف المنقلبة على مخرجات الحوار لتمرير مشروعها الانقلابي. أسباب في مجملها تتعلق برخاوة الدولة في تعاطيها مع التحركات المسلحة التي كانت تنازعها شرعيتها وتسعى بجهد حثيث لقضم الجغرافيا وصولا إلى العاصمة. إلى جانب استثمار جماعة الحوثي لسيولة المرحلة الانتقالية، ولعبها على المتناقضات المتعلقة بصراع القوى الوطنية فيما بينها. ما مكنها من اختراق الوضع وتشبيك علاقات مع النظام القديم وصولًا للانقضاض الكامل على الدولة. لكن، بالطبع خلف تلك الأسباب الظاهرة، عوامل ذات طابع تاريخي، تعد بمثابة الدافع الرئيسي وراء ذلك النكوص التاريخي الذي أحدثته قوى الانقلاب. يمكن القول إن جذور الانقلاب على مخرجات الحوار، لم تكن وليدة مباشرة لتلك اللحظات التي جرت فيها تحت مبررات اقتصادية في جوهرها. إنما تعود بشكل مركزي لحدث ثورة فبراير. هذا الحدث، الذي شكل مهددا رئيسيا لتحالف العصبوية القبلية والسياسية الحاكمة ونفوذها، وكسر صيغة الهيمنة المركزية للاستفراد بالسلطة والثروة من قبل القوى التقليدية ذاتها، المتمثلة في تحالف القبيلة- ببعدها الطائفي والجهوي؛ والنظام- ببعده العائلي وشبكة المصالح الخاصة به. مخرجات الحوار كتهديد تاريخي لتحالف الانقلاب من المعروف أن نشأة الدولة، في التأريخ السياسي اليمني الحديث، كانت نشأة ذات طابع طائفي بمرجعية مذهبية دينية خالصة. ومع قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، نجحت في كسر الطابع الطائفي للدولة؛ لكنها لم تتمكن من ترسيخ صيغة سياسية للدولة الحديثة، تحل محل الصيغة البدائية القديمة. وظل نظام الثورة في صراع مع القوى الملكية لثمان سنوات تقريبًا، حتى أنجزت صيغة مصالحة "هجينة"، دُمجت على إثرها بقايا القوى الملكية في الدولة والجيش، ليظل النظام خليطًا من المبادئ الجمهورية الشكلية، المعجونة بقوى الهيمنة القبلية القديمة. كان الوضع مقبولا لتحالف الهيمنة القديم، كونهم لم يخسروا كل شيء. وأتقن نظام الرئيس السابق "صالح"، الإمساك بالعصا من المنتصف، عبر غلاف ظاهري حداثي للدولة؛ وبنية داخلية تقليدية تجني مكاسب الثروة، وتتمتع بامتيازات السلطة. لكن الأمر تغير مع انفجار ثورة فبراير 2011، وما أفضت إليه من استحقاقات، وصلت إلى مرحلة إنجاز "صيغة دستورية" جديدة في مخرجات الحوار؛ تعيد رسم خطوط العلاقة بين السلطة والشعب، من منطور حديث؛ وترفع الغطاء عن صيغة الهيمنة القديمة؛ وصولًا إلى توزيع عادل للثروة والسلطة بين المركز والأطراف. هذه الإفرازات، التي انبثقت عن مؤتمر الحوار، شكلت رعبًا نتج عنه استشعار قوى المركز الطائفي والقبلي لخطورة انكشافهم وسحب البساط من تحتهم. الأمر الذي بدوره، دفع بتحالفات الهضبة إلى تحييد كل خصوماتها المؤقتة، والتوحد على هدف مشترك لمنع تمرير مخرجات الحوار أو تثبيتها رسميًا. حدث ما يشبه التجاوب التلقائي لمخاوفهم، انتهى باندفاع جماعة الحوثي- باعتبارها نواة المركز الطائفي- نحو اسقاط العاصمة صنعاء، بعد حصولها على تسهيلات من الدولة "العميقة" للنظام القديم. الأمر الذي مهد طريقها لتحقيق الهدف سريعا. استثمار مزاج أقليمي متواطئ ترافقت تحركات تحالف الانقلاب على مخرجات الحوار، مع مزاج إقليمي متخوف من صعود تيارات ما يعرف بـ"الإسلام السياسي" إلى السلطة. الأمر الذي منح تحالف الانقلاب مساحة أكبر للمناورة، داخليًا وخارجيا، ليتمكن من تحقيق أهدافه عبر استثمار هذا المزاج الإقليمي المتواطئ معهم، بهدف قطع الطريق أمام أي إجراءات تفضي إلى استقرار النظام السياسي، لما من شأنه أن يقود، في نهاية المطاف، إلى تمكين قوى الثورة الصاعدة من ترسيخ حضورها. وذلك بحد ذاته، ما كان يشكل مصدر توجس كبير في عقلية دول الإقليم، وبالتحديد دول الخليج، التي كانت قد دشنت ثوراتها المضادة مع منتصف 2013، وشرعت في استهداف القوى الكبرى الحاملة للثورات، بغية عرقلة أي تحولات ديمقراطية في المنطقة. وتزامنا مع هذا المشروع، جاءت تحركات الجماعة الحوثية. ولما رءاها الخليج تتسق مع هدفه، غض الطرف عنهم، حتى تمكنوا من افتراس كل شيء. وحين تكشفت حقيقة ما جرى، للجميع، جاءت عاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية، لتدخل اليمن مرحلة جديدة، ما زالت تفاعلاتها جارية حتى اللحظة..
محمد المياحي
وقفة في الذكرى الخامسة للانقلاب على "مخرجات الحوار" 1078