بين حين وآخر أجد كتابات ومنشورات تبحث عن فائدة لغوية في بعض كلمات القرآن التي جاءت مختلفة في رسمها عن الرسم الإملائي بقواعده المعروفة اليوم كـ"رحمة ورحمت، ونعمة ونعمت، وفطرة وفطرت"، وكنت قد بحثت في الموضوع من قبل فوجدت أن البحث في إيجاد الفروق والفوائد تكلف لا طائل منه، وتاريخ المخطوطات القرآنية يقول بغير ذلك، إذ أن المصحف الذي بين أيدينا اليوم -وهو ما لا يعرفه الكثير للأسف- لم ينسخ من مخطوطة مصحف عثمان وإن سموه رسماً عثمانياً، لأن مصحف عثمان بكل نسخه لم يعد موجودا وهذا ما يقوله البحث العلمي، وقد تم كتابة المصحف الذي بين أيدينا من نسخة تعود لمنتصف القرن الثاني موجودة بمتحف اسطنبول.
وخلاصة الموضوع حول تلك الكلمات التي تجدونها مخالفة لقواعد الخط الإملائي اليوم هو أن الخط العربي خضع كغيره من الخطوط لعملية تطور حتى اكتمل بالصورة التي بين أيدينا اليوم، ففي بداياته مثلا لم يكن منقوطا ولم يكن مشكلا، ولم تكن تكتب حروف المد الثلاثة وخاصة الألف، ولم يكن هناك تفريق بين التاء المفتوحة والمربوطة، ولا تفريق بين الألف الممدودة والمقصورة، وكانت الكلمات تكتب بلا تاء مربوطة "رحمت، فطرت، نعمت" وتكتب بلا ألف مقصورة فتكتب حتى وعلى بهذه الطريقة"حتا، علا" فاقتضى تطور الخط التفريق بين كل ذلك كي تكون المسميات أكثر دقة لمدلولاتها، وقد كتب الأوائل المصاحف وخلطوا في طريقتهم في الكتابة بين الخط القديم والمتطور فبقيت بعض الكلمات على الرسم السابق قبل تطور الخط، فأخذه اللاحقون على أنه توقيفي ولا يصح تجاوزه بينما الأمر كان اجتهاديا من النساخ.
ومن يقارن اليوم بين أقدم المخطوطات للمصحف بمتاحف لندن وباريس وبين المخطوطات المكتملة للنص القرآني والتي تتواجد بمصر وتركيا (نسختين) وطشقند يجد هذا التطور للخط العربي.
وبناء على هذا فبالإمكان اليوم كتابة المصحف على طريقتين:
الأولى: تودع المتاحف.. والثانية: توزع على الناس.
أما الطريقة الأولى: فهي كتابته على طريقة الرسم العثماني ذاته بعد دراسة شاملة لسمات ذلك الخط قبل تطوره، وسيكون لهذا المصحف فوائد للدراسين والباحثين في رصد تطور الخط العربي وفوائد أخرى.
وأما الطريقة الثانية: فيكتب بخط إملاء اليوم كي يسهل قراءته لمسلم اليوم بدل تلك الحواجز الإملائية التي تعيقه عن القراءة ومن ثم تعيقه عن الفهم.
إننا نجد اليوم صعوبة لقراءة النص القرآني عند من يحمل شهادة دكتوراه، إذا لم يكن له معرفة سابقة بقواعد رسمه، والعيب بنظري ليس فيه بقدر ما هو في حالة الفصام التي نعيشها بين دراستنا لقواعد الإملاء والكتابة المتعارف عليها وبين رسم يخالف تلك القواعد في بعض كلماته، وليس مطلوبا من كل إنسان أن يعتكف بين يدي شيخ يعلمه القراءة، فالقرآن ميسر للذكر، ومن تيسير الذكر أن نيسر للناس قراءته.
قد وجدت من خلال دراستي للموضوع أن التشدد في الرسم المنتشر اليوم عمره لا يجاوز مائة وخمسون عاما، وقد جاء بعد أن اعتمد الأزهر طبعة معينة للمصحف أخذها عن مخطوطة مصحف موجود بالمتحف التركي تعود للقرن الثاني الهجري، ثم جاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف واعتمد تلك الطبعة ووزعها على كل العالم الإسلامي، وقام أيضا بسحب كثير من النسخ المطبوعة للمصحف من كثير من الدول التي وزع فيها..
أما قبل تلك الفترة، أي تقريبا قبل عام 1923م فكانت المصاحف تكتب بالرسم الإملائي المطور، وقد وجدت بعض مخطوطات لمصاحف يمنية تعود لأربعة قرون ووجدت المسألة عندهم ليست بهذا التشدد الموجود اليوم، بل كانوا يكتبون المصحف بالرسم الإملائي المتأخر، فلماذا كل هذا التشدد؟.