أكره الخوض في نقاش عقيم لا طائل منه إلا إزهاق ما تبقى من روح النخوة وإتلاف ما جادت به رياح الهم من صمتٍ أحمق ومع هذا فقد أواجه أحياناً من يربطني من عنقي ويسحلني لخوض مثل هذا النوع من الجدل رغما عني فأجدني مضطرة للدفاع عن فكرة سامية أو معتقدٍ نبيل أو غاية راقية.. أو حتى أجدني مضطرة للدفاع عن نفسي أمام الآخر الذي يضعني خلف القضبان لمجرد أنني لا أوافقه الرأي أو لا أقف معه على مساحة الضد والنقيض والخصم الذي لا يجب أن تقوم له قائمة.
لقد وضعني قدري يوماً أمام ذلك الآخر الذي تحدث طويلاً عن ثلاثة وثلاثين عاماً مضت من عمر الوطن كانت حصيلتها التاريخية ثورة مبتورة وفكرة مشوهة ومساحة شاسعة من جدل بيزنطي يتنافس أصحاب القرار حول مائدته دون جدوى.. كان يبدو لي مثل حبة (فشار) في قدرٍ فارغ ترتفع دونها النار تدريجياً، حتى أنه لم يكن يشعر أنه ينفعل ويقف عن مقعده ثم يعود مقبلاً دخينته بحرارة العاشق الثمل... يحدث هذا بينما أستريح على مقعدي أسترسل في اعتبار كل ما يحدث أمامي جزءاً من مسرحية ساخرة لا تستحق الاهتمام، فالرجل لم يترك لي فرصة للحديث بينما يتحدث عن حرية الرأي واحترام وجهات النظر مستشهداً بأدب الاختلاف كفلسفة عصرية ممنهجة لتنظيم آلية التواصل الفكري بين الناس على اختلاف توجهاتهم، ومع هذا فقد وضعني على كرسي الاتهام وألقاني في بحيرة من الصمت القلق وشعرت للحظة أنني أريد أن أقبل رأسا والدّي ويدهما أمتناناً على حسن التربية!..
هذا الآخر الذي صال وجال حول مقعده وثار وثأر لحجته لم يترك لي فرصة واحدة بحجم سم الخياط لأطرح رأيي أو أقدم حجتي.. لهذا رأيت أن أكثر إجابة مقنعة لمن مثله هو الصمت والاكتفاء بالاسترخاء إلى أن ينتهي لديه شحن بطارية الغضب والتعجب والانتماء المفرط. وحين مل صمتي وطلب مني إبداء رأيي بعد ما يقارب الساعة وبضع دقائق وبعد أن كان قد استعرض كل قضايا الوطن في سلسلة من الصور القبيحة غير المعبرة عن الجوهر أجبته بمنتهي البرود: احنا نستاهل.. نستاهل ما دام بيننا من يتناول قضايا الوطن بطريقتك أيها الآخر..
ألطاف الأهدل
نستاهل ثم نستاهل! 1184