أعترف بأني قد أصبحت في عداد المدجنين، أو ربما كان اسمي مسجلاً في مقدمة قوائم اليائسين، لأني أضعت جزءا من الوعي وفقدت القدرة على التعامل مع الواقع بالشكل المطلوب في مديريه منكوبة.. منهوبة، وألغيت من قاموس معرفتي الحكمة التي تقول إن من أصعب الأشياء في حياة الإنسان هي كيف نتعامل مع الزمن...!!
كنت أعتقد أن الحياة في فرع العدين كما هي الحياة في مديريات أخرى, صرخة مدوية في دهاليزها لكي تكشف ماذا خبأت وماذا تخفي وماذا تعد للقادم..
لكني هذه الأيام أيقنت أن الحياة في فرع العدين والمواطنون وكذلك الفاسدون والناهبون والنافذون والمتحزبون غير معنيين بصراخي.
وفي فرع العدين من العبث في لفت أنظار الآخرين لأنها بمثابة عواء في صحراء مترامية الأطراف، لا يرد فيها أحد على استغاثتك سوى صدى لا يطفئ نيرانا فاجعة، ولا يروي من عطش أو يحسسك ولو قليلاً بالأمان.. لقد بح صوتي من كثرة صراخ لا ينفع.
ونفدت الصلوات.. وجفت الترانيم، ومرت قطارات على مدى ما يقرب من اثني عشر عاما دون أن يتوقف أحدها في محطتي التي أنتظر وأصرخ فيها، ولم يترجل منها أحد، ولا أعرف إلى أين تذهب تلك الجموع الغفيرة التي ملأت العربات المتتالية وهي تلوح بأيديها من خلف الزجاج الأسود.. لم أكن أتمنى قط أن أكون معهم أو واحدا منهم، لأني أكره الذهاب إلى المجهول والطرق الغامضة والاتجاهات المهدومة ومسارات العتمة.
لكني ما زلت أصرخ ليس من وحدتي حسب بل من وحشة فاضت على جوانبي حتى امتداد الأفق، عندها أحسست أن الزمن لم يغادرني بعد عندما رنت أجراسه في مخيلتي اليائسة وأعادت صياغة ترتيبها بما يبعدني عن رؤية السراب المخادع، أو الاستمرار في الانزلاق تحت منابر التيه.
لكن الأدهى من كل ذلك أني أيقنت تماما بأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، بل إنها باتت حقيقة مفهومة رسختها سنوات العمر التى قضيتها وأنا أكتب هنا وهناك.. أكشف فساد هذا واشيد بذاك.. انشر صحيفة هنا وأوزعها هناك.. أنادي هذا وهذا.. بحت الأصوات فلا مجيب.. وجفت المدامع فلا راحم..
لم تفسد البصيرة بعد مادام الجسد سليما رغم أنه يعيش في فراغ كبير بحجم الكون، ولم يعد الوهم يؤرجحني ونزف الذاكرة لم يحرق كل ما هو متراكم، فقد تعلمت من جديد كيف تكون البدايات وأولها ترك الصراخ ومغادرة الحزن اليومي وشقاء الروح.
لم أكن وحدي في مركب فرع العدين المنخور الذي تتقاذفه الأمواج، مزقت الرياح العاتية أشرعته, لا نعرف متى تأكل أجسادنا الحيتان وأسماك القرش فيها..
اثنتا عشرة سنة تذكر دموع عيني، فماذا ننتظر إذن؟
عبد الوارث الراشدي
في العدين..السماء لا تمطر ذهبا 1271