كثر الجدل وتوسع الخلاف بين مختلف طوائف المسلمين حول موضوعي الخلافة الإسلامية والولاية المزعومة منذ نهاية عهد الخلفاء الأربعة حتى نهاية الدولة العثمانية ولا يزال هذا الخلاف قائما حتى اليوم.. ولكن المتتبع في هذا الأمر يجد أن الخلافة الإسلامية ليست أصلا من أصول الإسلام كما أن من الافتراء أن نقول أو نصدق بأن الولاية أمر إلهي، فمسألة مثل هذه هي اجتهاد بشري ومسألة دنيوية وسياسية أكثر مما هي مسألة دينية.. والدليل على ذلك أن المصادر التشريعية في الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية لم يرد فيها أي نص يبين كيفية اختيار أو تنصيب ولي الأمر أو الخليفة, إلا أن هذه المصادر التشريعية تحتوي على نصوص كثيرة حددت صفات ولي الأمر وأوجبت طاعته, لكنها لم تحدد آلية اختياره إنما ترك الأمر شورى بين المسلمين لتنظيم سلطتهم ودولتهم، وذلك لأن هذا التنظيم عمل دنيوي واختراع بشري واجتهاد جماعي للمحافظة على تماسك المجتمع الإسلامي بعد وفاة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان نبيا ورسولا بتكليف وبوحي من الله سبحانه وتعالى, ولكن مهمة الرسالة و الهداية التي بلغها الرسول خير تبليغ لم يكن أحد فروعها يتضمن مهمة القيادة إلا أن الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم مارس دور القيادة في شؤون الدنيا برضا وإيعاز من المسلمين والصحابة إليه لما وجدوا فيه من الأخلاق والأمانة والعدالة حتى قبل نزول الوحي عليه كما حدث ذلك في قضية الحجر الأسود.
وهكذا أصبح هو النبي والرسول والهادي والقائد والمعلم والمربي والمدرب, ولكن بعد وفاته شعر بعض الصحابة أن الانقسام والخلاف سينتشر بين المسلمين, فما كان منهم إلا أن دعوا أبا بكر الصديق وبايعوه دون أي وصية من الرسول كما يدعي البعض وإنما وقع عليه الاختيار عندما رأى أغلب صحابة رسول الله أن أبابكر تتوفر فيه صفات القيادة وروح تحمل المسؤولية بعد رسول الله وربما قد يكون هناك من هو أفضل منه كما جاء في أول خطاب له (لقد وليت عليكم ولست بخيركم), وكان يمكن لهذا الاختيار أن يقع على أي أحد غيره إن توفرت فيه الصفات التي أجمع عليها المسلمين وأجمعوا عليه, وحقيقة الأمر بأن الإسلام لم يقر نظام دولة معين وإنما كان ولا يزال نظام هداية للبشرية في إدارة أمور دينهم ودنياهم.
والمتابع للتأريخ الإسلامي يجد أن الإسلام لم يفرض نظاما سياسيا يجب أن يتم الحكم بمقتضاه، بل ترك للمسلمين مطلق الحرية في تنظيم الدولة طبقا لظروف الزمان والمكان، فلم يسم الرسول أي خليفة من بعده رغم أنه لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن استأذنه جبريل حين قال (إن عبدا خيره الله بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده) وذلك بعد أن أتم رسالته, ولم يخف الرسول أمر الولاية لسلالته كما يدعي المفترون, فإن أمرا عظيما مثل ولاية أمر المسلمين لو كان صحيحا أنه مقصورا على آل بيت رسول الله لنزلت فيه آية صريحة مثل صراحة (محمد رسول الله) كون هذا الأمر أكبر أهمية بكثير من أهمية مسائل أخرى تعلقت بشخصيات فذكرت أسماءهم فيها صراحة بالقرآن كقوله تعالى (تبت يدا أبي لهب) وقوله (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها), فذكر الله اسم الصحابي زيد في قضية ليس لها حظ ضئيل من الترجيح لو وزناها مع ولاية أمر المسلمين, وأدنى من ذلك أيضا هي قصة أبي لهب وحمالة الحطب.
وهذا ما يجسد أن الإسلام منظومة دين وأمة أكثر مما هو دين ودولة، فالإسلام جاء لهداية الأمة إلى طريق الصواب وينشئها لتكون خير أمة وترك لها حريتها في بناء دولتها, والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة، ومنها قوله تعالى (كنتم خير أمة) وهي أعم من خير دولة وكذلك قوله تعالى (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) وهي أقوى من الدولة الواحدة.
ولو راجعنا تأريخ الأمة الإسلامية لوجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نشر الإسلام وتعاليمه ومبادئه بين القبائل العربية فأسلم منها من أسلم وهادن من هادن ودفع الجزية بعض اليهود والأعراب مقابل حماية المسلمين لهم وإثباتا لاعترافهم بالمسلمين, وكان الهدف الأساسي هو نشر رسالة الإسلام وبناء خير أمة ’ ولكن المسلمين بعد وفاة الرسول وبعد أن انتشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية أدركوا بأنهم أصبحوا أمة ولا بد لهذه الأمة من حضارة تحفظها وينشروا دينها الإسلام خارج نطاق الجزيرة العربية لأنه سيختلف تعاملهم مع تلك الدول أو الحضارات الفارسية والرومية عما كانوا ألفوا عليه عند نشر الإسلام بين القبائل العربية.. فالجزيرة العربية لم يكن فيها أي أمة أو دولة أو حضارة. ولذلك عمل المسلمين على بناء دولة إسلاميه لأنهم أصبحوا أمة. ومن ثم أنشئوا حضارة إسلامية عظيمة مستمدين أحكامها وقوانينها وأخلاقياتها من القرآن والسنة النبوية، ولأن الإسلام دين سماوي شأنه كشأن بقية الأديان السابقة التي أتت لأمم من قبل ولم تأتي إلى دول، فالإسلام أتى للأمة كافة كرسالة وهداية ومسؤولية للجميع لا تفضيل لعربي أو أعجمي إلا بالتقوى.
وإن اعتبار الإسلام منظومة دين ودولة هو تقليل وتقليص لحجم هذا الدين, ولو كان الإسلام منظومة دين ودولة فقط لما كان إسلام الأوربيين والأمريكيين تاما أو مقبولا وهم يعيشون تحت سيادة دولة لا إسلامية، ولو كان الإسلام دين ودولة فقط لأصبح المسلم الأمريكي أو الفرنسي في حيرة من أمره إذا اندلعت حرب بين دولته غير الإسلامية التي ينتمي لها وبين دولة إسلامية أخرى تدين بدينه فلا يدري مع من يحارب أو يدافع . ولهذا لا بد أن ندرك أن الإسلام أكبر من الدولة ونطاقها وأوسع من الولاية واحتكارها. فالدولة الإسلامية مجرد حضارة للأمة الإسلامية شيدها المسلمين إبان قوتهم وسيادتهم على باقي الشعوب مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدولة الإسلامية قد يكون من مواطنيها أقليات غير مسلمة ولكنها ملتزمة بأحكام وقوانين الدولة الإسلامية. فالإسلام لم يجبر أحد على اعتناقه ولم يحارب من يعترض نشره, ولقد جاء هذا في القرآن الكريم ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وكذلك (أفأنت تكره الناس أن يكونوا مؤمنين)..
أما بالنسبة لآلية اختيار الوالي أو الحاكم والسلطة في الإسلام نجد أنها مرت بمراحل تردي فتغيرت من مرحلة القيادة النبوية، إلى الخلافة الإسلامية المبنية على الشورى ، ومن ثم تراجعت إلى الخلافة الأسرية وحكم الوريث إبان الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، ووصلت في النهاية إلى الأنظمة الاستبدادية، ولهذا تراجع نفوذ الدولة الإسلامية وانقرضت حضارة الإسلام المسلمين بسبب تراجع آلية اختيار الحاكم وتنظيم الدولة وانحراف القائمين على الحكم إلى الاحتفاظ بكرسي الحكم بدلا من الاهتمام بالرعية. ولقد شهدنا في العامين الماضيين حراكا عربيا وإسلاميا من أجل إسقاط الأنظمة الاستبدادية التي نخرها الفساد ، وكان من الجيد أن ترتفع المطالبة باختيار آلية مهمة لتنظيم عملية تداول السلطة إلى جانب المطالبة بالحرية و الديمقراطية على حد سواء.
وفي خضم هذه الأحداث برز مصطلح الإسلام السياسي بدلا من الإسلام السلفي الذي يرفض الديمقراطية ويتمسك بالشورى في اختيار ولي أمر المسلمين، والحقيقة أن التيار السلفي يعرف ما يرفض أكثر مما يعرف ما يريد، فالديمقراطية إن اختلفت إجراءاتها لا تختلف عن الشورى إلا باختلاف الزمان لا المكان, فإذا كانت الشورى تقتصر على ذوي الحل والعقد في الإسلام فإن هذا الإجراء لم تتخطاه الديمقراطية , حيث تتمثل هيئة ذوي الحل والعقد في الديمقراطية باللجنة المكلفة بصياغة الدستور والتي لا بد أن تتوفر في أعضائها شروط الكفاءة الشاملة, أما طريقة الاقتراع واختيار الحاكم عبر الصندوق فلا أعتقد أنها تختلف اختلافا كبيرا عن إجراء البيعة في عهد الخلافة إلا باختلاف الزمان والمكان. ولهذا يتميز الإسلاميين السياسيين بالوسطية والاعتدال والانفتاح على ظروف الزمان والمكان.
خلاصة القول هو أن الإسلام دين ذو رؤية شاملة للدنيا والآخرة في شئون الإنسان كلها النظرية والعملية. وهو لا يفصل بين الدولة الدينية والمدنية وهذا ما يتواءم فعليا بين مدنية الدولة وبين دين الأمة التركية.
محمد صالح الحشئي
نظام الحكم في الإسلام 1002