لا أتحدث عن (الحرية) كمساحة جغرافية احتضنت أحلام أصحابها خلال فترة زمنية محددة. ولا أتحدث عن (الحرية) كشعار مطاط يُعرف ظاهره ولا يُدرك باطنه، لكنني أتحدث عن (الحرية) كمبدأ وقيمة إنسانية وأخلاقية.
ولهذا كان العرب قديماً يسمون صاحب النخوة العظيمة والحس المرهف والمشاعر الشفافة بالإنسان الحُر. ولهذا فإن الإنسان الحُر هو الإنسان الذي لا يقبل الضيم والإهانة وكسر الكبرياء لنفسه أو لغيره، وهو أيضاً ذلك الإنسان الذي تضج حنايا روحه بالكرم وفراسة الحواس بحيث لا يقبل أن يكون عالة على أهل أو صاحب أو وطن، الإنسان الحُر هو صاحب القيم التي لا تنكس والمبادئ التي لا تقبل التواطؤ أو الانحراف، هو الإنسان الذي لا يسمح لنفسه بالانجرار خلف تيارات متناقضة وتوجهات منحرفة عن مسارنا الأخلاقي والديني والاجتماعي.
الحرية ليست مجرد مفردة لا حدود لحجم معانيها، بل هي المفردة الوحيدة التي نستطيع من خلالها العبور إلى أضيق مساحات الفكر والعطاء على اعتبار أننا لا نستطيع تمييز الأسود لو لا وجود الأبيض والعكس من هذا صحيح أيضاً.
الحرية لا تعني استخدام كل المتاح لتبرير غير المباح، بل هي وقوف عند الحدود ودراية عميقة بعواقب المحظور، وفهم لظواهر الأمور وبواطنها، كما أنها ـ أي الحرية ـ لا تعني حشد المواقف واستنصار ردة الفعل المعاكسة للفرقاء والنُظراء من أصحاب القرار ووضع كل ذلك على مائدة الجياع الذين يعانون من فاقة الاصطياد في الماء العكر، لأن الحرية تعني الفكر النقي والنية الطاهرة والسلوك السوي.. ولا يعني أن يكون الإنسان حراً أنه يملك الحق في التعدي أو التطفل على حرية الآخرين أيضاً، فمساحة الحرية التي نملكها تشبه تماماً مساحات منازلنا التي تنتهي ملكيتنا لها أمام منازل الآخرين، فنحن أحرار في التعبير عن مشاعرنا طالما وأنها لا تمس مشاعر الآخرين، ونحن أحرار في التعبير عن آرائنا وأفكارنا طالما وأننا لا نسفه أو نقلل من آراء وأفكار الآخرين، ونحن أحرار في الانتماء لأي توجه سياسي طالما وأننا لا نجعل من مبادئه سلاحً نوجهه إلى صدور الآخرين، فالحرية شرف واحترام وكبرياء ولم تكن قبل اليوم عاراً وذلاً وسفهاً تخفيه شعارات براقة نؤمن ببعضها ونكفر بآخر منها.
الحرية قيادة رأي، فالإنسان الحر يعلم تماماً متى يتحدث ومتى يصمت ومتى يكون العمل هو اللغة الوحيدة للتعبير عن أي فكرة أو معتقد والإنسان الحُر هو من يترفع عن الوقوع في مستنقعات الخيانة والتبعية والعنف وترقيع الممزق بالرث.. فالحرية رُقي وتوافق وسلام.
والذين يدعون الحرية وقد قيدتهم أغلال الماضي بكل ما فيه من صراع لا يمكن أن يكونوا قد فهموا من الحرية شيئاً إلا أنها ذلك الستار العريض الذي يختفي خلفه الأخيار والأشرار في مسرحية واحدة ولعل البعض يفهم تلك المعاني الإيجابية للحرية فهو أمام هذا الغُثاء الفكري لا يملك إلا أن يستمسك بهذه القيمة كأداة تميز بين الصواب والخطأ بينما لا يملك الآخرون إلا صوتاً أو سوطاً...
ألطاف الأهدل
ماذا تعرف عن الحرية؟ 1591