اعتادت قريبتي ـ التي بلغت الستين من عمرها المديد إن شاء الله ـ اعتادت أن تتنهد وتقول وهي شاخصة إلى صورة زوجها المعلقة بالجدار (أبو محمد.. الله يرحمك..) أبو محمد تاجر يمني من المناطق الوسطى هاجر قبل ثلاثة عقود إلى الحبشة ومنها إلى السودان.. المهم أن صورته معلقة في بيته الكبير، الصورة تحمل ملامح شرسة بعيون جاحظة، أنف طويل مدبب، شعر تسرب من تحت عمامة صغيرة تلف الرأس المتكور ملتهمة نصف الأذنين..
الصورة الرسمية لأبي محمد كأنه جنرال في الجيش معنى عليها عشر سنوات وهي معلقة عن الجدران المصبوغ بطلاء زيتي أبيض يعكس الملامح الغليظة للرجل.. بعد وفاته، اتفق أبناؤه على تعليق صورته في صالة الاستقبال والتي عادة ما يرتادها الضيوف الكثر من الرجال وكنوع من العرفان والفخر من الأبناء علقت صورة أبي محمد فهو الأب المحب والحنون لهم الذي لا يتأخر في تلبية طلبات أولاده أبداً.. هذه الصورة هي آخر صورة تصورها أبو محمد وعمرها عقدين فقد التقطت له عندما استخرج رخصة عمل لبقالته الكائنة في السوق الشعبي بمدينة كسلا بشرق السودان من أجلاً مصلحاً ابن عمه بالبقالة ثم بالمخبز رداً على الأخير الذي تزوج بزهرة على ابنة عمها.
عندما توفى أبو محمد بكى أبناؤه الخمسة بكاءً مراً إلا زوجته خمدت الدموع في مقليتها، وجف نبض قلبها من كل المشاعر التي قد تكون بين زوجة وزوج رحل عنها فجأة.. لكنها كانت تبكي وصيته عندما تسدل الظلمة ثوبها ويغيب البشر في نوماتهم ويبقى السكون كانت تبكي عن سوء حظها إذ ابتليت برجل سيء المعاملة، على عباراته الجارحة التي يكيلها لها بلا توقف على اتهامه لها بأنها على علاقة بفلان وزعطان، كان يضربها ويحكم إغلاق باب الشقة عليها حتى كبر أبناؤها ورفضوا هذا السلوك.. عاشوا مرارات أمهم المسكينة كانت تبكي سراً ليست على رجل تركها أكثر ألماً ووجعاً فذكراه طاحونة تدق رأسها كل يوم.. كان يعايرها دوماً ببعض نساء أصحابه من اليمنيات أو السودانيات كان يجنس كل ما تقوم به ويقلل من شأنها.. أنجبت له خمسة ولدين وثلاث بنات.. عاشت معه سنوات الفقر والجوع إلى أن بدأ عمله التجاري "بقالة", فمخبز ثم مطعم.. ثم جاء بزوجة ثانية وأبقى أم محمد في عصمته كبقائه على إذلالها وبث مشاعر الدونية في دواخلها، رغم معارضة أبنائها الذين صاروا في سن الشباب، رغم حبهم لوالدهم إلا أنهم طلبوا منه تطليق أمهم حتى ترتاح من كلامه الجارح وأسلوبه القاسي في التعامل معها, لكنها كانت تدرك أن الموت على مقربة من أحدهما وأن لا وقت لتجفيف الجروح التي غزاها الدمامل وآن أوانه لملقاة ربه فلا فسحة للطلاق والبحث عن راحة وهمية من زمن قصير.. أيقنت بأن الحل سيأتي من خارج هذه الجدران التي شهدت الكثير من المواقف الصعبة التي تلاطمت فيها الكلمات البائسة والفاترة, لذلك عندما رحل أبو محمد فجأة وهو في أوج "حناكه" مع مصلح وبقية اليمنيين المغتربين في نفس المدينة.. لم تحزن أم محمد بل ظلت تعيد شريط الذكريات الحافل بالمرارات تتكئ على صبرها.. بحثاً عن السعادة دوماً وعندما عرفت أنها موجودة كان الوقت قد أزف.. لقد قتل كل الآمال في دواخلها.. حاولت أن ترى أبنائها ليكونوا رجالاً ومن ما كانت تحلم, لكن أبو محمد كان دائماً يتدخل ويقدم لهم دروساً أخرى.. ظلت العبارة باقية كلما شاهدت صورة أبو محمد (أبو محمد.. الله يرحمك بس).
محاسن الحواتي
أبو محمد.. الله يرحمك بس! 1844