يجب أولاً قبل الخوض في الحديث عن ماضي موازين أو مراكز بعض هذه القوى، والحديث عنها حالياً من خلال تحليل وتفسير توجهاتها وأفعالها وراؤها التي من خلالها يمكن التوقع بما ستؤول وتتوصل إليه في المستقبل القريب، أن عليها الإدراك بأن طريقة الوصول إلى السلطة بالقوة والعنف ماضي عفى عليه الزمن، لذلك عليهم أن يؤمنوا بالدولة المدنية ويسلًموا الأسلحة السيادية (المتوسطة والثقيلة) للدولة، وأن يغلب على هذه القوى (ميزان العدل والمساواة في النظام والقانون) أسس بناء الدولة المدنية الحديثة، ويكون الجيش الوطني المحايد حزب الأحزاب وأقواها (حزب الوطن) المحافظ على أمنه واستقراره ووحدته، والحصن الحصين والضامن الوحيد لمنع حدوث اقتتال أو حرب أهلية بين هذه القوى عند اختلافها سياسياً، بمعنى أن تكون لدى هذه القوى جناح سياسي فقط وليس جناح سياسي وعسكري في آن واحد، حيث وأكثرهم يرفعون شعار الدولة المدنية ولا يطبقونه على أرض الواقع.
وعند الخوض بحديثنا حول مراكز هذه القوى يمكن القول أن العديد من السياسيين والمثقفين يروا بأن التعددية الحقيقية في اليمن قد بدأت بعد قيام الوحدة عام 90م، والتي نص دستورها في مادته الخامسة على أنه: (يقوم النظام السياسي للجمهورية اليمنية على التعددية السياسية والحزبية، وذلك بهدف تداول السلطة سلمياً).. وفي ظل ذلك الهامش الديمقراطي أعلنت الأحزاب السرية نفسها مثل حزب الناصريين وتشكلت أحزاب جديدة منها التجمع اليمني للإصلاح، وعدد من الصحف، والعديد من منظمات المجتمع المدني، وجماعات الضغط والمصالح الأخرى، وإنشار الجماعة السلفية من خلال مراكزها ومدارسها العلمية.
وعندما حصل الاختلاف بين الطرفين الموقعين على الوحدة (الحزب الاشتراكي- حزب المؤتمر الشعبي العام) حدث في الشارع والمجتمع اليمني استقطاب حاد، وظهور تحالفات أدت إلى حرب أهلية عام 94م، أنهزم فيها الحزب الاشتراكي، وهنا أختل ميزان القوى لصالح طرف بعينه.
وبالأمس القريب ظهرت قوى جديدة تكتل (اللقاء المشترك) والحراك الجنوبي السلمي في بعض المحافظات الجنوبية، وناشئة تمثلت في (الشباب المؤمن) الحوثيون، وبدلاً من أن يدرك النظام المتغيرات على الصعيد الداخلي السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وعلى الصعيد الخارجي الإقليمية والدولية التي أثرت على المجتمع اليمني ومحيطه، والعمل بروح الفريق الواحد من خلال إرساء قواعد الدولة المدنية (ميزان العدل والمساواة) على أساس أن يكون هذا الميزان هو الضامن الوحيد لمنع حدوث الاقتتال والحروب، قام النظام بتقليص هامش الحرية، ومضاعفة الانتهاكات لحقوق الإنسان، وعسكرة الشعب، وتهميش وتدجين المعارضة، وتحويل النظام إلى نظام شمولي الجوهر ديمقراطي المظهر، واعتماد سياسة القوة ولغة السلاح مع أي طرف أو جماعة تعارضه ولديها مطالب أو حقوق مشروعة، مما أدى إلى اضمحلال وتآكل شرعية النظام والتي عُبًر عنها بقيام ثورة الشباب الشعبية السلمية في فبراير 2011م، وعلى القارئ هنا ملاحظة ظهور قوة جديدة إضافة للقوى الأخرى أكثر فاعلية وقدرة وتضحية (قوى الشباب)، واجتماع جميع هذه القوى ما عدا الجماعة السلفية مع الجيش المؤيد للثورة، مما أدى إلى ترجيح كفة الميزان لصالحها ضد النظام السابق.
ومن وجهة نظري بعد هذه التطورات والأحداث التي تمخضت عنها المرحلة الحالية (الوفاق) تحاول أغلب هذه القوى ما عدا قوى بعض الشباب فهم غير منظمين سياسياً أو مؤدلجين فكرياً، بناء وإنشاء تحالفات جديدة وعلى أساس أن تكون متجانسة أو متقاربة معها إلى حدٍ ما من حيث الرؤية السياسية (البرنامج السياسي) أو الإيديولوجية الفكرية، حيث يتحدث الكثير من الساسة والمثقفين بأن هنالك تحالفات بدأت تطفو على السطح بين جماعة الحوثي وحزب المؤتمر الشعبي العام (حزب الرئيس السابق) وأحزاب التحالف معه من جهة أولى.. وتحالف الإخوان المسلمين (الإصلاح) والسلفيين من جهة ثانية.
وحسب اعتقادهم فإن حزب الإصلاح بدأ يبحث عن بديل وحليف جديد له في حالة حدوث انشقاقات أو تفككات للقاء المشترك, لاسيما أن الأحداث الأخيرة والانقلاب في مصر كانت بمثابة درس وعبرة لهم وهم يدركون أن من وقف وعارض بشدة ضد الإخوان في مصر الناصريون والاشتراكيون، حيث أن إيديولوجية بعض أحزاب ومكونات اللقاء المشترك ترجع إلى مرجعية وإيديولوجية وفكر تلك الأحزاب.
ومن جهة ثالثة.. لا ننسى أن الحراك الجنوبي بمختلف قواه وحركاته يشكل قوة لا يستهان بها إذا فكرت بممارسة السياسة والدخول في معتركها، وتخلت عن مطالبها الانفصالية، ويعتقد بعض الساسة أن المرحلة القادمة ستكشف عن ظهور أحزاب جديدة أخرى، وستشهد انقسامات وخلافات في بعض الأحزاب القائمة، مثل تلك الموجودة في حزب المؤتمر الشعبي، وأن الرئيس الحالي/عبدربه منصور وبعض مناصريه قد يشكلون حزب جديد لدخول حلبة السياسة، حيث وأنه في نظرهم واعتقادهم بدأ يحسن علاقته مع بعض فصائل الحراك الجنوبي، وما علاقته الجيًدة بمؤتمر شعب الجنوب أحد فصائل الحراك، إلا بداية لبناء تحالفات وتكتلات تحاول فرض نفسها بقوة في الواقع السياسي اليمني، وكذلك يحدث تحالف بعض الشباب وهذه القوى على غرار بعض القوى الأخرى، أو قد تتحالف بعض فصائل الحراك إن تخلوا عن مطلب الانفصال مع الحوثيين إذا آمنوا بآلية التداول السلمي للسلطة، وتشكيلها أحزاب سياسية والمشاركة في الانتخابات، لا سيما وعلاقتهما جيدة، وتضامنهم المتبادل في مؤتمر الحوار الوطني.
وفي اعتقادي إذا لم تحدث انقسامات أو تكتلات وتحالفات في النظام الحزبي القائم فإن أحزاب اللقاء المشترك ستكون في المقدمة أولهم حزب الإصلاح ويليه أحزاب التكتل الأخرى في الانتخابات القادمة، يليهم الحوثيون (أنصار الله) والحراك الجنوبي، وأخيراً حزب المؤتمر الشعبي والأحزاب الصغيرة الأخرى.
أما إذا حدثت انقسامات وظهرت تكتلات وتحالفات جديدة فإن موازين القوى ستتغير بناءً على حجم الانقسامات والتحالفات أو التكتلات، والرؤية السياسية والإيديولوجية لها، وكذلك الإمكانيات المتاحة لها اقتصادية وإعلامية وثقافية وغيرها من الإمكانيات الأخرى.
وأخيراً نستطيع القول بأن التعددية الحالية قد تفرز أو فرزت نظاماً حزبياً ثنائياً في العديد من الدول النامية لاسيما دول الربيع العربي، فالعديد من الدول المتقدمة بدأت فيها التعددية من خلال ظهور الأحزاب ومن خلال التحالفات والانقسامات الحزبية والتكتلات، وبالتالي أفرزت الثقافة السياسية نظام الحزبية الثنائية مع وجود أحزاب صغيرة محدودة التأثير حيث استطاعت أحزاب هذا النظام التحكم بالمشهد السياسي وصنع القرار، فمثلاً في الولايات المتحدة الأميركية شكًل الفيدراليون جبهة في أول كونجرس في شكل حزب، وفي مواجهتها شكًل جيفرسون حزباً معارضاً حزب (الجمهوريين- الديمقراطيين) ثم حدثت انشقاقات داخل هذا الحزب أدَت إلى ظهور حزبين هما الحزب الديمقراطي وحزب الهويج، ومن ثم قام تحالف بين الهويج والجناح المناهض للعبودية داخل الحزب الديمقراطي، ونجم عن هذا التحالف قيام الحزب الجمهوري عام 54م.
وللدلالة على أن بعض أحزاب بلدان الربيع العربي تتجه إلى نظام الحزبية الثنائية ما حدث في مصر من تكتلات وانقسامات للأحزاب بعد ثورة 25 يناير حيث أفرزت الثقافة السياسية هناك الثنائية الحزبية متمثلة في الإخوان المسلمين والسلفيين من ناحية.. وتكتل الأحزاب المعارضة (جبهة الإنقاذ) من ناحية أخرى، لكن الانقلاب أعاد الموازين إلى ماضيها، وكذلك الثنائية الحزبية في تونس على غرار ما حدث في مصر للأحزاب إلى حدٍ ما، وبالرغم من وجود أحزاب صغيرة أخرى إلا أنها محدودة التأثير.
ومن خلال هذه المعطيات اعتقد إن الثقافة السياسية اليمنية يمكن أن تفرز الثنائية الحزبية في مجتمعنا كمثيلة ومُستلهمة من تلك الثقافات، إلا أن هناك صعوبات تواجه الحزبية الثنائية في اليمن هي أن النظام الحزبي لا يتسم بمرونة قوية سواء في بنيته التنظيمية أو في نسقه العقيدي أو الفكري، وذلك بسبب تأثيرات مراكز القوى الاجتماعية والقبلية والسياسية وعوامل أخرى على هذا النظام والمشهد السياسي اليمني.
خاطر مقبل الفيصلي
موازين القوى في اليمن بين التأرجح والاتزان!! 1545