لا أدري كيف ودعتها, لكنها ودعتني هي قبل رحيلها بشهور, حيث كانت تحكى لي قصة حياتها وحياة الأسرة عموماً, وكيف أنها سوف ترحل عن هذه الدنيا قريباً.. وإن جاءها أمر الله أوصتني ألا أبكي بصوت عالٍ, أو أتبهذل, لأن ذلك لا يصح.. وعلى أن أكون قوية وصبورة وأتحمل الحزن والألم.. كنا نبكي معاً على فراق لم يتم بعد.. أقبل خديها الممتلئتين وفمها ويديها والركب.. لقد عزت نفسها معي، أوصتني بكثير أشياء, منها قبل دخولنا القبر ندعو كل صويحباتها, وعددهن خمسة هن المقربات, ليودعنها, كما ندعو ابنتها من الرضاعة, أم هيثم, لتراها.. وكان لها ما أرادت..
أمي التي رحلت في منتصف رمضان اختار لها الله هذا التاريخ والفأل الحسن, فهي امرأة مسالمة، وديعة، هادئة جداً, صبورة "وحمالة اسية", وجهها دائماً صبوح ومبتسم, امرأة وأنثى في نفس الوقت, طويلة القامة مع تناسق واضح في الجسم, كأنها رياضية, كنت أختها وصديقتها وكنت أقصر واحدة بين إخوتي, حيث كانت هي وأبناؤها الذكور في طول واحد, وأنا بينهم قصيرة، لكن هذا لم يمنع أن نكون صديقات في علاقة خاصة وجميلة، كنت أستغلها يومياً بتقريري عن العمل وعما حدث خلال اليوم.. أحكي لها بكل التفاصيل, فتارة تضحك وتارة أخرى تزعل, وعندما أشتكي لها من شخص ما ترد( خليهم لأرحم الراحمين), أرد عليها ( أنا كلمتك عشان تقولي هذا الكلام يمه؟).. متسامحة ولا تحب الخلافات والمشاكل, دوماً تقول لنا ( سامحوا وانسوا عشان الحياة تستمر صح).. لا نتفق معها ولكن نحيها ونلجأ لدفء كلامها أنا وبنات أخرى وكل أفراد الأسرة..
أمي الغالية كلما ذكرناك قفزت المواقف الضاحكة أمامنا, فزوجات الأبناء يذكرن نصائحك وأنت تحدثي كل واحدة عن زوجها (ابنك) وعن شخصيته وكيف تتعامل معه .. تتقفز النصائح والحكم التي لا تفارق لسانك ونظرك كثيراً، وأذكر أنها كانت طباخةً ليس لها مثيل وست بيت ماهرة وكل من تناول وجبة في بيتنا طلب عزومه أخرى، ولا تقدم للسفرة أي طباخة أو أي شيء, بل تتفنن في الطبخ, وكلما انتقدتها أن ذلك تبذيراً لا داعي له, قالت عبارتها المعتادة (أكل تأكله وأكل يأكلك), وهي قد تعودت على الحياة الرغدة والرفاهية في حياة الوالد, الله يرحمه, ولم تتغير في أسلوبها حتى في ظروف الشدة.
رحلت التي كان يرزقني بها الله وما علي إلا أن أجتهد الآن لكسب معيشتي, لأن دعواتها كانت دوماً معي ورضاها وحبها كانا غطائي وستري.. ها أنذا أبكي عليها كل يوم وأدعو لها بالرحمة والمغفرة, المرأة القوية التي عملتني كيف أرفع رأسي عندما أمشي وكيف أعتز بنفسي وأثق بها وأنا أمشي رافعة رأسي حتى لو وجعني ظهري.. لم تكن تحب المزح، وكنت أمازحها كثيراً أنا وحسين أخي, حتى إنه عندما يكون مزاجها عكراً تنادي لأخي حسين ليشرب معها كوباً من الشاي ويضحكها بحكايته التي لا أساس لها من الصحة, وهو خبير في خلق جو المرح لأمي.
رحلت التي كانت تنصحنا دوماً وتدعو لنا كل يوم، وتعاتبنا، تمدحنا, تناقشنا, وأذكر أنها كانت تسألني عشرة آلاف ريال تأخرت في دفعها، وقد ألحت علي بأن سددي المبلغ.. افترضت عليها أن أكتب لها قصيدة حماسية من شقيقها "محمد", وهو أخ وحيد لهن الخمسة, وأعلم مدى حبها له.. وفعلاً كتبت قصيدة مدح على لسان الأخوات الخمس, بما فيهن أمي, يذكرن فيها رجولته، شجاعته، أخلاقه.. الخ, وقلت لها هذه القصيدة بخمسة آلاف والخمسة الباقية سوف أدفعها نقداً.. قالت (ترجأ القصيدة إلى يوم الجمعة عندما يأتي أبناؤها وهم يقرون إذا ما كانت القصيدة تستحق أم لا), مع أنها أعجبتها.. المهم أنني قرأت القصيدة عليهم يوم الجمعة، أحدهم قال: تستحق (2500) ريال فقط, والثاني قال (لا أقبلها بألف), والثالث تم تبخيس القصيدة.. لكنها في النهاية حكمت بأن القصيدة تستحق العشرة آلاف ريال, وكانت تطلب مني قراءتها عندما تتكئ لشراب فنجان القهوة مساءً.
الرائعة أمي رحلت ولم تشرب يومها كوب الشاي ولا شراب (البردقوش) ولا ( القديد) الذي تعشقه، رحلت ولم تقل لي عبارتها المعهودة (لا تتأخري في العمل سوف أنتظرك للغداء).. رحلت ولم نشرب معاً القهوة مساء ذاك اليوم, لكني( سكبت لها عطرها الذي كانت تحبه على صدرها وكل جسدها, وأبقيت عطرها قليلاً لنفسي).
إلى جنة الخلد يا غالية.. إلى الفردوس الأعلى يا أم يوسف وبنت يوسف.