هناك خطوات أو مراحل للثورة تفضي بها إلى دولة، وهذا يحدث في الحالة العادية أو الصحية، أي ما لم يُحشر وسط الخطوات جسم غريب، يمنع تراتب مراحل الثورة فلا تصل إلى غايتها.. لكن في حالة تراتب المراحل (هدم- بناء- عطاء) لا بد أن تصل الثورة وتلك خطواتها إلى غايته؛ لكن في المقابل لا بد أن ندرك أن الثورة- وفي الحالة العادية الخالية من التآمر العنكبوتي؛ أشبه بولادة متعسرة؛ أي لا بد أن تمر بمخاض ومن ثم آلام بيد أنها في النهاية تفضي إلى ولادة طبيعية، وإذا ما زادت الولادة تعسرا فلا بد من أن يحصل تدخل جراحي (عملية قيصرية) وهذه لا بد وأن تنتج عنها دماء لكنها في النهاية ستقضي إلى ولادة غير طبيعية لكنها ستضمن سلامة المولود وسلامة أمه.. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ثورات الربيع العربي فعلاً بدت لنا في صورة ولادة متعسرة؟، أم تجاوزت خطورة وآلام هذه الولادة إلى ما هو أسوأ؟.
لا يختلف اثنان حول تعسر ولادة ثورة الربيع العربي, فثمة أنظمة تحول دون حصول ولادة طبيعية, فولادة الثورة ليس ثمة شك متعسرة, بل في غاية التعسير؛ والمشكلة ليست هنا إطلاق فتلك نتيجة طبيعية لخطورة مولودها على العروس لكن المشكلة تكمن في عدم السماح للولادة المتعسرة بالتدخل الجراحي.
إذاً فثورات الربيع العربي- تحديداً اليمن- أشبه بتلك الولادة المتعسرة التي لا يسمح فيها بتاتاً بالتدخل الجراحي, ففي ثورة اليمن مثلاً جاءت "المبادرة الخليجية" لتحل مكان "العملية القيصرية" التي هي أشبه بجسم غريب حشر نفسه بين خطوات الثورة أو مراحلها الطبيعية؛ ليعطل الحل أو يحول دون المولود والولادة أو حتى لا يكون مولود الثورة يمنياً أصيلاً, فالرعاة يريدون مولوداً هجيناً، أي يمني الجنسية, لكنه خليجي سيسي أمريكي الهوية، وهذا يحصل بالتأكيد عندما تتعسر الولادة ولا يسمح فيها بالتدخل الجراحي, حيث تكون النتيجة الحتمية هنا ولادة مولود دون أم تحضنه وتربيه وتنشئه كما تريد, بل سيولد الجنين ليتلقفه ذئاب في زي رعاة فيهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ فأنا لست مؤمناً بمسمى "رعاة المبادرة" وهم أنفسهم في سوريا ومصر بدو على حقيقتهم "ذئاب المجزرة" الولادة للثورة بالتأكيد متعسرة، وهذا شيء طبيعي, فكل ميلاد كما سبق لا بد له من مخاض وكل مخاض لا بد له من آلام؛ لكن أن يحال دون الولادة المتعسرة والتدخل الجراحي أمر غير طبيعي بالمرة, بل في غاية الغرابة؛ ومن يسمون أنفسهم رعاة مبادرة هم من يحولون دون الولادة المتعسرة والتدخل الجراحي ليس خوفاً على الأم والجنين؛ إذ لا يهمهم موت الاثنين؛ لكن التدخل الجراحي سيؤثر على مصالحهم الاقتصادية في كل من اليمن ومصر وتونس وليبيا ولا يؤثر ذلك في سوريا؛ لأن الموقع الجغرافي لهذه الأخيرة لم يسعفها ولم يحقن دماءها، حيث لا تمر من جواره تجارة الغرب وليس فيه خطر تنظيم القاعدة الذي يؤثر على الأمن القومي لدول الجوار؛ وهذا الأخير يتواجد بقوة في دولة اليمن ودول المغرب العربي تونس ليبيا الجزائر المغرب؛ لهذا تدخل النيتو سريعاً في ليبيا وسمحوا بالولادة الطبيعية في كل من تونس ومصر لتسارع عجلة الثورة ولم يسمحوا ولن يسمحوا بالمولود الطبيعي في اليمن حيث كان هناك وقت كاف لإدخال جسم غريب في خطوات الثورة ولم يكن هناك وقت في سياق تونس ومصر, فمطبخ دبي النتن لم يكن قد عد بعد، وإن كانت الولادة في مصر أقرب إلى الوهمية حيث سعت الدولة العميقة للتخلص من الجنين.. ولا ننسى أن فرعون السياسة البرادعي هو من نسل الفرعون الأكبر فهذا الأخير وإن سمح بالميلاد لكنه في المقابل قام بذبح جميع المواليد خوفا من الوليد على عرشه، وكيف لا يخشى فراعنة العصر على عروشهم من مولود أو وليد ثورات الربيع العربي وكيف إذاً لا يحولون بين المولود وولادته ودون الميراث.
إن ما يميز الفرعون الأكبر عن فراعنة هذا العصر التابعين أو العبيد أنه سمح للأم أن تلد ثم سعى في ذبح المواليد؛ (يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم) أي لم يحلْ دون المولود والولادة؛ وفراعنة العصر الحديث حالوا دون الأم ودون ولادة مولودها إنهم يسعون إلى ذبح الاثنين معاً؛ ففي حالة موت الأم سيموت الجنين وفي حالة موت الثورة (الشعب) معنوياً وإرادة -في المراهنة على الوقت جراء تطاول آليات مبادرة الرعاة, ستموت أهداف الثورة أو يتقاسم هذه الأهداف المتفاوضون وفي وسطهم يكون الثقل للذئاب الذين يرتدون بزة الرعاة. لقد أصبح من المعلوم أن صناديق الانتخابات قبل ثورات الربيع الإسلامي كانت لا تلد إلا حماراً، وبعد الثورات أصبح معلوما أن الصناديق ذاتها لم تلد ولن تلد إلا مهرا، والمتآمرون اليوم يسعون, عبر تعسير الولادة ومنع التدخل الجراحي, إلى أن تلد المبادرة بغلاً, أي بين المهر والحمار.. إنهم يريدون رئيساً للمبادرة في صورة "المهر" شكلاً بيد أن مضمونه لا يتغير عن مولود ديمقراطية ما قبل الثورات.
إن ما يدعو للسخرية -حسب قراءتي للمشهد- هو ذلك الترويج لفكرة استنساخ انقلاب مصر في كل من اليمن وتونس، وليبيا؛ والحقيقة التي لا تغيب عن فهم القارئ الحاذق والمتعمق والمتابع الجيد.. إنهم, أي الرعاة أو المتآمرين سيان, إنما يسعون من وراء الانقلاب في مصر إلى استنساخ مبادرة اليمن في كل من مصر وتونس وليبيا وسوريا؛ إذ ما حدث في اليمن لا يخرج عن الانقلاب, وإن غالطنا أنفسنا وأقنعناها توهما- وهو انقلاب في صورة مبادرة ؛ لم يكلف المتآمرين أي نوع من الخسائر، سواء في جانبها المادي أو السياسي أو الأخلاقي؛ وقد خسر المتآمرون كل تلك الجوانب في انقلاب مصر؛ فخسروا المليارات؛ وكفروا بالديمقراطيات وانتكسوا في السياسات وسقطوا في كل الأخلاقيات من خلال ما رأيناه من مجازر مروعة ارتكبت في حق السياسة والأخلاق؛ فقد اتهمت الديمقراطية/بالإرهاب لأنها أفرزت الإسلاميين وهذا يعد سقوط سياسي نتج عنه سقوط أخلاقي تمثل في تصفية الديمقراطيين الإرهابيين.. وهذه التصفية التي حصلت في مصر هي تصفية بعدية على حسب الطريقة الفرعونية التي أشرنا إليها سابقا؛ أي هي تصفية لمولود الثورة الطبيعي الذي لم يستطع المتآمرون وقف ولادته، بقصد التوافق على منتج هجين ينتج عبر المبادرة. إنهم بكل وضوح يريدونا استنساخ مؤامرة/مبادرة اليمن السوداء بعد أن ألبسوها بياضاً على جميع بلدان ثورات الربيع العربي؛ لأنها مبادرة تسمح لنا أن نبني دولتنا المدنية على ورق أبيض عبر آليات الثورة كالحوار مثلاً.. لكن إذا جاء وقت حفر الأساسات وبناء قواعد الدولة على أرض الواقع سرعان ما تعود الأشياء إلى حقائقها؛ ففي برهة سنرى المبادرة مؤامرة وسنرى الرعاة ذئاباً وبدلاً من أن نضع القواعد في الأساسات لنبني الدولة؛ سوف يسبقنا المتآمرون بخطوة فيؤدون الثورة في تلك الحفريات أو الأساسات والتي كانت معدة لزرع قواعد الدولة؛ وساعتها لا تلوموا الموؤدة إذا سألت بأي ذنب قُتلت, فما يراه الرعاة مبادرة أراه مؤامرة وما يرونه تمديداً أقرأه تبديداً؛ وما نراه قريباً سرعان ما يصير بعيداً في اليمن الجديد!.
د.حسن شمسان
يرونه تمديداً ونراه تبديداً! 1153