وطن لأثرياء الحروب والأزمات.. وطن آخر لأثرياء التدين الشكلي.. وطن ثالث لأثرياء التحضر الزائف.. ووطن أخير للسواد الأعظم من الفقراء والمعدمين الذين يعتقدون أن الله يرزق تلك الفئات كما يشاء، لأنهم شطار وأذكياء وأن الفقراء سيظلون في فقرهم والجنة في الآخرة بانتظارهم!!.. هذه الأوطان المتعددة التصور والأشكال موجودة في وطن واحد هو اليمن، فالأثرياء من الفئات الثلاثة (أثرياء الحروب والأزمات، أثرياء التدين الشكلي، أثريا التحضر الزائف) لا ينتمون إلا لذواتهم ولثرواتهم، فما فوق الأرض من ثروات لهم وما تحتها أيضاً، وهذه الطبقة من الأثرياء كما يقول الكاتب المصري سيد خميس (هي شرائح اجتماعية تكونت رأسياً من هوامش طبقية متعددة وغير متجانسة ولا يجمع بينها غير الانتماء إلى الذات أولاً وأخيراً واعتبار الحصول على الثروة هدفاً وغاية يتقدمان على كل القيم!).
لقد أمعنت الطبقة الثرية هذه يجهلها باستلابها السلطة، أي زاوجت ما بين السلطة والثروة وأمعنت إذلال الشعب وتركيعه، سحلت كرامته حتى لا يفكر في حقوقه، فولد الذل التاريخي للشعب وعززه الصبر القاتل من قبل الفئة التي تمثل الأغلبية الصامتة والمعدمة.. هذا الذل التاريخي كأنه ممنهج أو مخطط له ليظل كل في وضع التمايز نحو الأسفل أو نحو الأعلى..
إن الشعوب ذات الخلفيات التاريخية والحضارية لا تقبل الذل والهوان لاشك سيأتي عليها يوم تثور فيه وتحرق المعبد بمن فيه.. ونحن شعب عريق.. شعب عرف الغزاة وأبادهم، شعب انصهرت فيه كثير من الأجناس (كالهنود، الصومال، الأحباش، الأتراك و...إلخ) شعب لديه معدات هائلة على التكيف مع الثقافات، اللغات، الظروف الاجتماعية والاقتصادية، حتى مع تغيرات المناخ القاسية، فكيف قبلنا بالذل من قبل أثرياء الصدفة وسارقي السلطة؟.
إن البؤس الاقتصادي والاجتماعي الذي نعيشه من قبل والآن وربما في المستقبل ـ لست متشائمة فقط احتمالات واردة ـ هذا البؤس بما صنعت أيادينا فقراء كنا أو أغنياء أو نص نـص، لأن الفساد القيمي سبق الفساد العملي على أرض الواقع وبالتالي صار الفساد في كل مكان.. ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أنفسهم هذه هي الأهم في الموضوع.. أثرياء الحروب والأزمات يتاجرون في أرواح الناس وإبادة كل الناس طالما وهذا سيحقق لهم مكاسب تضاعف من ثرواتهم، كإشعال الفتن والثارات والإرهاب و...إلخ.. هناك من يسكب الزيت دائماً حتى لا تنتهي جذوة النار.. نفوس هؤلاء الأثرياء ربما تكون مريضة وربما تكون في حالة يرثى لها، لأن ملياراتهم لن تعالج أمراض نفوسهم المتأصلة والمزمنة.. عهدناهم واكتوينا كبلد بنارهم، فما ذنب الجيل التالي؟..
أثرياء التدين الشكلي على اعتبار أن هناك تديناً فعلياً وصادقاً لا يحتاج الإعلان عنه، فالعلاقة مع الله علاقة خاصة وسامية جداً، لكن أن يكون الدين شكلاً من أشكال الخداع الاجتماعي ووسيلة للبعض للترزق والثراء بدغدغة المشاعر الدينية فذلك ما يشوه صورة الإسلام ويوقع العامة في فخ الشكلانية التي لا تحترم مصداقية الآخر..
أما أثرياء التحضر الزائف وما أكثرهم الذين يحاولون مواكبة العالم المتحضر بشكلانية بالغة يوحون للآخر أنهم أكثر قرباً من مدنية العالم الأول وعند أول منعطف يبرز الوجه الحقيقي من التخلف وإذلال الآخر المختلف، الوجه غير الديمقراطي، غير المتسامح في مسائل الحصول على الثروة والسلطة..
كل هؤلاء حصلوا على الثروة بوسائل أقل نزاهة ـ لم نقل وسائل غير مشروعة ـ يعملون دوماً على اللحاق بكراسي السلطة وقد يخسرون أموالهم من أجل ذلك وكل قدراتهم "إنه وطن الفيد يستفيد منه من يجيد الصيد".. أما وطن السواد الأعظم من اليمنيين هو وطن الشوارع المتسخة، وطن معاناة الناس مع مختلف الأمراض وتعايشهم مع الفقر والبؤس، وطن يصر فيه الناس على الحياة كيفما كانت.. لديهم أمل يتجدد كل يوم في أن الفقر سيغادرهم بغتة كما الموت يأتي بغتة..
إن تعدد الأوطان في وطن واحد لا يعني أن هناك ثباتاً اجتماعياً أو حالة من اليأس العام من التغيير، بل لابد من ثورة تغيير أخرى ومساءلة من أين لك هذا؟ ومحاكمة "الكسب غير ـ المشروع"، رغم تواطؤ الأجهزة المعنية مع معظم الحالات ولكن..
محاسن الحواتي
هناك أكثر من وطن.. 1473