يطل علينا شهر ربيع الأول بذكراه العطرة، وذكرياته الكريمة، نتذكر فيه المولد النبوي الشريف، وهي ذكرى يتذكر فيها الناس معاني المحبة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ونتذكر فيها أيضا جوانب الاقتداء والتأسي بالحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، ونتذكر النفس البشرية الكاملة فمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النفس البشرية الكاملة، وهو نموذج الكمال الإنساني.
جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، فيهذبها ويوجهها، يهذبها مما يعتريها من نزق النفوس، ومن ترسبات العادات والتقاليد، ويطهرها مما يعلق بها من الأهواء فتستقيم على نهج، إذ كل فضيلة بين رذيلتين فالشجاعة وسط بين تهور وجبن، والكرم وسط بين إسراف وبخل، وهكذا بقية الصفات، هذبها مما يشوبها أو اختلط بها أو مالت به عن استقامتها، ويوجهها فتكون لله عز وجل فما كان لله دام واتصل وما كان لسواه انقطع وانفصل.
جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبشرية تتخذ بعضها بعضا آلهة وأربابا من دون الله يحلون ويحرمون، ويشرعون بأهوائهم، فرد البشرية إلى ربهم، يعبدونه بما يشرع لهم، ويطيعونه بما يأمرهم، ويتجهون إليه لا إلى غيره بعبادتهم، فزكت النفوس وسلمت القلوب، واستقامت الحياة كل الحياة في كل جوانبها وشئونها؛ وهكذا كان النداء الإسلامي عبر القرون والأجيال، تعبيد الناس لرب الناس، لم يكن لرفع عرق على عرق، ولا سلالة على سلالة، ولا لتسلط أمة على أمة، لم يكن هدف الإسلام تسلطن العرب على غيرهم، ولا تسلط فئة من الناس على سواهم، بل كان الهدف واضحا، وقد سأل رستم أمير جيوش الفرس الصحابي الجليل في معركة القادسية: ما جاء بكم؟ فرد عليه قائلا بكلماته الخالدة: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وقد سعدت البشرية بعدل الإسلام ورحمته ما لم تسعد به في ظل حكم آخر غير حكم الأنبياء عليهم السلام، ورأينا أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه يحتكم إلى قاضي المسلمين القاضي شريح في درع سقط منه وأخذه يهودي فيحكم القاضي بأن الدرع لليهودي لأن الدرع تحت يد اليهودي وليس مع أمير المؤمنين شهود غير ولده وخادمه ولا يصح للقاضي أن يحكم بها، وهو ما دعا اليهودي أن يعلن إسلامه لما رآه من عدل الإسلام. عدل الإسلام الذي أوصل الحقوق إلى أهلها حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن أعش فليصلن الراعي في حمير حقه من هذا المال إلى صرته غير متعتع فيه.
جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن للمرأة حقوق ولا لها شأن يذكر، فجعل الجنة تحت قدميها فالجنة تحت أقدام الأمهات، وقد جاءه رجل يستأذنه في الجهاد فقال للرجل: ألك أم؟ قال: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إلزم قدميها فثم الجنة" أي فهناك الجنة.. وجعل لها من الطاعة ثلاثة أضعاف وقدمها، فحين جاءه رجل يسأله: أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك؟ قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك. إنه الإسلام الذي جعل الإحسان إليها طريقا للجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن دخل الجنة".. وذكر عن صلى الله عليه وآله وسلم: "من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة" وجعل حقوق المرأة مكفولة في حريتها وكفاءتها وبيعها وشرائها، وحفظ لها من يرعاها ويحميها الأب والأخ والزوج والولد.. وكذلك أعطى الإسلام الحقوق للأطفال وللحياة كلها في صورها المختلفة ومجالاتها المتعددة.. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرحمة المهداة، قال الله تعالى:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
د. محمد عبدالله الحاوري
شهر ربيع الأول شهر المولد النبوي 1995