سأحدثكم اليوم عن قصة حقيقية تكشف لك زيف الواقع الذي نعيشه، وتبيّن مقدار التفاوت بين الوعود وصادق الفعل، وتشرح لك معاناة أناس تسلطت عليهم الحاجة في عصر نفطي ثري موعود بنقلة تاريخية... قصة لا يمكن أن تدرك إلاّ إذا أعملت فيها الذهن على مذهب العبقرية الغارق في الاستنتاجات والفرضيات والمؤدي إلى النظريات والحقائق...
رجل موفور الذكاء مبسوط الجسم، فصيح العبارة، لا ينقصه ما يتممه في أعين الناس، خاض بحر الحياة المتلاطم بحثاً عن لقمة العيش،هنا وهناك وحتى في دول الجوار ثم أنفسح له المجال لكثرة ما قرأ عن دولته وعزها ومجدها وثرائها، وما ينتظرها في عالم اليوم المنفتح من وعود تحول الصحراء اللاهبة إلى نهر من الذهب البارد! فجرى في مهيع الحياة جري الواثق، وأخذ لذلك الأهبة من مال اجتزه من أفواه أبنائه، واصطنعه من كد جسده، وانتشله من براثن العمل المرهق، وولج به عالم التجارة في بلده، فوقفت في طريقه عقبات كثيرة فرضتها وزارة التجارة وصيّرتها كأغلال القصيمي في رقاب الطامحين، فنكب عن طريقها وصيّر مدخراته سفينة شق بها عُباب بحار الأسهم المتلاطم، فصارع الأمواج، وطاول العواصف حتى أتى مالا قبل له به فإذا هو مليم، حائر الطرف، كسير النفس، مشغول البال، منهوك العصب، ألكن اللسان، قد تحطّمت جميع أشرعته، فتكسّرت أضلاعه بعد أن تحطّمت مجاديفه، فأصبح هشيماً في عالم الحياة تذروه الرياح الهوج!
حاول جاهداً أن يجد مخرجاً ولو كرأس الدبوس يحشر فيه ما تبقى من آلامه وآماله لعله ينفذ إلى عالم أرحب يتنفس فيه هواء الحرية، ويرفع الكلفة عن نفسه، والفقر عن أبنائه، والوحشة عن قلب زوجته، ولكن هيهات؛ فقد وهبته العواصف إلى القواصف، وأصبح بضاعة في يد الرهبة تقلّبه حيث شاءت... ثم لاح له في ليل الحياة برق يحيي ما هجع من ثائر الأمنيات، ويثبت قلباً منخوباً راجفاً، ويشجع نفساً حزينة مشغولة على الصولة والوثوب، فيمّم شطر بيوت كبار القوم، فتقلّب فيهم من يد دافعة، إلى يد لاكزة، إلى قبضة لاطمة، إلى راحة صافعة...! ومن وُعود قد دُهنت بزيت الزيتون كي لا تغصّ بها الحلوق إلى أمنيات تتلألأ عليها فيوضات العدات، حتى إذا أدلهم الليل اكتسح وجودها وصيّره لليباب...!
ساءت حالته، وأصبحت حياته على المحك، وبات زواجه الحالم يحفر الأرض بحثاً عن قبر يواري فيه الأيام الماضيات والساعات الباسمات، فذهبت زوجته إلى أهلها، وخلّفته وحيداً ليراجع نفسه، ويتخذ قراره، ويوجد لهم البيت الذي وعد بشرائه، والسكن الذي حلف على اصطناعه...!
كلمني في ذلك وعيونه تنهمر بالدموع، ونفسه تلجّ بالشكوى، وحاله تبعث على الشجا أن أجد له مخرجاً يبل ريقه، وينشط حياته، ويحيي رميم عائلته..!
وها أنا ذا أفعل ذلك في سرد قصته لتكون عبرة للمعتبرين ونذيراً للسائرين، وإضاءة لفهم الواقع الذي نعيشه، ومعرفة مقدار فداحة الظلم الذي يعانيه كثير من أبناء هذا الشعب وبناته، وهم بين طليح لا يرقى إلى الكمال درجة إلاّ نزل إلى النقص درجات، أو كما قال أحدهم: (حظي) أمشي على الدرج خطوة خـطوة في حال ذات إعوجاج و (حظ) غيري يصعد (الأصنصير) محلقاً في فضاءات لا حدود لها... عالم بغيض اختفت فيه معالم العدالة الاجتماعية، وغابت فيه مفاهيم المواساة، وتحطمت على صخرته كل مطالبات المساواة والكرامة والحرية وفق المنهج الذي يسمح بالحياة السليمة البعيدة عن العيوب والنقص والحاجة...!
لماذا نستغرب دعوات الانفصال..وكثرة القتل..وانتشار الفقر الأخلاقي في عالم لا يجد الإنسان فيه ما يضمن له عيشاً صالحاً وحياة هانئة، حتى إذا ضجرنا من ذلك الواقع بحثنا عن حلول لا تمسّ المرض ولا تغور في أعماق المأساة لتقتطع الجذور، نداوي بها ضجر أنفسنا لا حال غيرنا...!
ليس من المعقول ولا من المشروع أن يقضي ثلة من أبناء هذا الوطن (العطل) في دبي أو في الريف الإنجليزي أو على شاطئ الغولد كوست، بينما الآلاف يعيشون ضنكاً وحياة تأباها فئران الأمم المتمدنة الأقل ثروة...!
إذا لم يلتفت الكبار من المسؤولين وبالذات حكومة الوفاق..والأغنياء من أهل البلد في يمن الإيمان إلى هذه الحالة وتناميها وشدة فورانها تحت السطح فلن تقر لهم أعين، ولن تسكن لهم أنفس بعد أن تتحول إلى بركان هائج وإعصار مدمر وزلزال مهلك، وكم من ثورة عالمية كانت وليدة لمعركة نفسية هُزم فيها الخير ودُحر فيها الشرف وقُتلت فيها النخوة، ورضيعاً لمعركة (بطنيه) ترفرف في سمائها رايات الجوع الغالب والفقر الطالب...!بعيدا عن ثورة السياسة والساسة التي مازالت حتى اليوم لم تؤتي آكلها بعد
زيادة على ما يفرزه المجتمع في بلدنا المضطرب اقتصادياً، والتالف مالياً، والمظلوم في توزيع الثروة من فكر منحرف يصوّر الواقع بما تعايشه النفس، ويفرض على الحياة شر ما يتلظى في عروقه، ويتسرب في دمائه، فيحصل الاستحلال للمال العام، والهروب من إنجاز الأعمال إلى اختلاس الأموال، وتصبح الرشوة فرضاً لازماً وقضاء مستحكماً، وتغدو السرقة صفة القوم في طرائق متعددة تحكي مقامات القوم من أسياد إلى صعاليك، ومن (كموسيونات) الصفقات الباذخة إلى (بخشيش) الطلبات التافهة، وتتم مصادرة أزمنة التفكير الحر، ويُستعبد العقل بفراغ الدائرة البهيمية في بحث لاهث عن الماديات، ثم يُمرّر له ما يُراد، ويُقرّر عليه ما يراه غيره في برمجة ذكية جماعية..!
هذه قضية أضعها بين أيدي العقلاء من أبناء قومي، وإني لأحسب أن فيهم المسؤول الناصح لأمته والتاجر الباذل لماله، والمفكر المعين بفكره ونظره، والشيخ المفتي بما يراه حقاً ولو كان ضد التيار، والمطلع الحساس الشعور القادر على تفهم الفكرة وتوضيحها لغيره في قالب مشرق.. ومن جهة أفكارهم سيبزغ فجر أبيض ينصر الحياة..!
عبد الوارث الراشدي
إضاة لفهم الواقع الذي يعيشه اليمن 1962