صحيح أن كثيراً من الطرق مفتوحة للسير فيها، لكنها ليست جميعاً من النوع المأمون، هناك طريق تبدو سهلة ويظن قاصدوها أنها ستوصلهم إلى مبتغاهم ولكنها في حقيقتها لا تؤدي إلا إلى الهاوية، وهناك طريق تبدو متعرجة وضيقة ووعرة ومليئة بالحفر والمطبات والصعود والهبوط، فيكون السير فيها شاقاً لكنها في الحقيقة طريق النجاة، لأنها الطريق المؤدي إلى الهدف النبيل المقصود.
فأما الطريق الأول فإنه الطريق السهل لأنه طريق الغايات الصغيرة غير الوطنية، طريق القرى والمناطق والمذاهب والأعراق والدعاوى المزيفة الكاذبة التي ما أنزل الله بها من سلطان العاجزة عن الصمود أمام الواقع الإنساني الشديد الحركة والتغيّر ومعطياتهما، رغم أنها دائماً ما يتم تغليفها بأغلفة برّاقة وتوارى سوءتها، في الغالب، بشعارات كبيرة لها قدسيتها عند الناس، ولها زمنها، من نوع: "العودة إلى دولة الخلافة، وأهل السنّة والجماعة، والجهاد المقدس من أجل حماية الدين والذود عنه، أو من تلك التي لها وقعها عند بعض النفوس من نوع: وحدة ومصلحة القبيلة وأبنائها والمنطقة وحقوقها والمذهب وحقه في الانتشار والتوسع، والعرق وحقه الإلهي في التسيّد، وووووو إلى آخره من تلك المقولات والشعارات التي لا يقصد بها أصحابها وجه الله، بل يريد رافعوها أن تعلو على الوطن ومصلحته العليا والإنسان وحقه في الحياة الكريمة وحقه في العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية، والمجتمع، بكل مكوناته، وحقه في السلام والاستقرار والتقدم المستمر، لا لشيء سوى أنهم يرون، في الغالب أنهم الوطن، وأن مصالحهم تسمو على ما عداها، يختزلون كل شيء في ذواتهم وأسمائهم، ومناصبهم ومكاناتهم وأسرهم وعشيرتهم الأقربين و يسخّرون كل الجهود لتحقيق مآربهم.
وأما الطريق الثاني الشاق فإن السائرين فيه، رغم العناء الذي ينالهم، يهدفون إلى غايات أكثر نبلاً وإنسانية ووطنية ومجتمعية وهم أكثر البشر قدرة على الصبر وتحمّل المشاق، لأنهم يرون المستقبل المجتمعي الإنساني الزاهر الخيّر واضحاً أمامهم، فيسخّرون أنفسهم للنضال من أجل الوصول إليه وإن عبر هذا الطريق الشاق المرهق، وأحياناً المميت.
أحياناً يكون هناك طريق واسع يتسع لأن يسير عليه كل الناس، وهو على خط مستقيم، أي أنه أقرب مسافة بين نقطتي الانطلاق والأهداف، ويحقق الوصول إلى الغايات الوطنية الإنسانية النبيلة بيسر وسهولة، لكن محبي الطريق الأول، أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، أصحاب المشاريع الصغيرة، يضعون فيه العديد من العوائق الكبيرة التي قد لا تعيق السير فيه وحسب، بل وقد يلقى بعض المصري على تجاوزه حتفهم، وما أكثر ما حدث ذلك، ولعل اغتيال الزعيم الوطني التاريخي الأبرز الشهيد المقدم إبراهيم الحمدي رئيس مجلس القيادة الأسبق "الذي سنخص ذكراه بموضوع خاص" هو المثال الصارخ لهذا النوع من الناس الذين يسمو حب الوطن وخيره وسعادة أبنائه ورفاهيتهم فوق كل النزعات الأنانية من أي نوع كانت، ولعل قتلته هم المثال الصارخ المقابل لكل الذين هم على استعداد لأن يقتلوا ويدمروا و ويستبيحوا كل ما هو محرم من أجل الحفاظ على مصالحهم التي هي في الاتجاه المضاد لمصالح المجتمع. لكن المدهش حقاً هو أن أبطال الحرية والخير والمستقبل الإنساني الطيب والعدالة بكل صورها دائماً ما ينتصرون رغم الأثمان الباهظة التي يدفعونها، ودائماً ما ينهزم الأشرار والقتلة والمجرمون ومستعبدو الشعوب، ويصيرون في مكان مجهول من مزبلة التاريخ.
أبطال الحرية دعاة الخير والعدل ينتصرون حتى بعد مماتهم، وهذا ما حدث ويحدث بالنسبة للزعيم الخالد الذكر إبراهيم الحمدي الذي ينتصر له الآن الشعب اليمني بشكل عام والجيل الجديد من الشباب الذين لم يعاصروه، من كل ألوان الطيف، بل فيهم الكثير جداً من أبناء وأحفاد أولئك الذين وقفوا في الاتجاه المقابل له بشكل خاص.
في حالنا اليماني الراهن، ما هو الطريق المتاح الآن للسير المجتمعي فيه؟ وما هي معالم هذا الطريق؟ وإلى أين يفضي؟.
في الحقيقة هناك طريق وطريق، ولكليهما نفس سمات ومعالم الطريقين المشار إليهما أعلاه.
فالطريق الأول يثابر، بل ويستميت على شقه ودفع الناس إلى السير فيه ذوي الأهداف الأنانية الضيقة التي تتكئ على النزعات ما دون الوطنية القروية المناطقية القبلية الطائفية، بكل تجلياتها، بالإضافة إلى حاملي الأفكار والمقولات والشعارات الماضوية التي لا علاقة لها بحياة المجتمع اليمني القائمة وقادم أيامه، ولا علاقة لها باليمن أرضاً وإنساناً، وهؤلاء، بوعي أو بدونه يحيلون الوطن اليمني والمجتمع إلى وسيلة لتحقيق أهداف هي في حقيقة الأمر أهداف الغير، فيصبح اليمن ميداناً للتقاتل من أجلها يقدم ضحايا من أبنائه، وبأثمان باهظة يدفعها من لقمة عيش مواطنيه ومستقبل أجياله ومن أمنه واستقراره في حرب ليست حربه، بل هي مفروضة من الغير.
والسائرون في هذا الاتجاه يصرون على المضي فيه ويرفضون المستقبل رفضاً يكاد يكون قاطعاً، وينكفئون على الجغرافيا أو على الدعاوى الموغلة في القدم، الصغيرة في المعنى والمبنى، التي لا ترقى إلى احتياجات الوطن والمجتمع، وتتصادم مع الحاضر وكل ما يشير إلى الحياة العصرية الكريمة التي قوامها العدالة الاجتماعية والحرية والمواطنة المتساوية التي سكب الكثير من اليمنيين، من كل طبقات وفئات وشرائح المجتمع، دماءهم غزيرة في سبيل تحقيقها، ويضللون الناس ويوهمونهم بأنها طريق النجاة، وأنها طريق الجنة، ويخفون حقيقة أنها لا تؤدي إلى غير جهنم في الدنيا والآخرة.
إن الطريق الذي يريده المجتمع، الطريق المتاح، المأمون، طريق العصر، المفضي إلى الخير والأمان هو طريق الدولة المدنية الحديثة، الحامية للحرية، المحققة للعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، خارج كل المرجعيات الأيديولوجية، بكل مسمياتها، الأمر الذي يستلزم أن تحشد قوى الحداثة المجتمع بكل أطيافه للسير في اتجاه بناء الدولة المدنية الحديثة، وأن تعمل حكومة الوفاق الوطني التي يقودها المناضل الأستاذ محمد سالم باسندوة والرئيس المنتخب المشير عبد ربه منصور هادي على تسخير كل الإمكانيات المتاحة للسير بقوة وانتظام في هذا الطريق، وأن تقدم ألأنموذج الدال على صدق النوايا وجدية العمل من خلال إنجاز خطوات يلمسها المواطن في طريق مكافحة الفساد، وإحلال الكفاءات الوطنية النزيهة التي تضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل المصالح الأنانية محل العناصر الفاسدة التي سممت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية واستطاعت بجدارة ان توصل المعاناة الناتجة عن فسادها إلى كل بيت، بل وأن تكثر من عدد الأيدي العاطلة والبطون الخاوية وأن تنشر الذل في أوساط المجتمع اليمني الذي كانت العزة فيه هي السائدة وبقوة يعرفها الجميع.
إن التدوير الوظيفي بين الفاسدين واستمرار استرضائهم، لم ولن يزيد المجتمع اليمني إلا بؤساً، ولن يزيد الحكومة والسلطة بشكل عام إلا خبالاً، ولن يزيد الناس إلا يأساً ونفورا من هذه السلطة التي لم تستوعب المتغيرات التي تجري في المجتمع والمخاضات التي توشك أن تضع حملها إذا استمر الحال على ما هو عليه، ولن يؤدي إلا إلى كثرة السائرين على طريق المشاريع الصغيرة ومنها المشاريع الماضوية محدودة الأفق، بكل أشكالها وموضوعاتها،. ولن يؤدي إلا إلى استفحال وتوسع وقوة أنصار الفساد والتخلف ونهب المال العام والمصابين بمرض التشبث بالسلطة الذين يعتقدون أنه من المنكر أن تخرج من بين أيديهم، فأستباحوا بدافع من ذلك دماء الثائرين في جمعة الكرامة وما قبلها وما بعدها، وما يزالون يتآمرون من أجل العودة إلى كراسي الحكم، ولن يؤدي إلا إلى تراكم كل عوامل الفشل الذي لن يفضي إلا إلى حالة مجتمعية وطنية مستعصية يصعب على هذه العقليات المحشورة في زوايا الغباء، أن تتعامل معها فيتطلب التعافي منها عمليات ستكلفنا الكثير إن لم يعقل ويفهم ويستوعب القاعدون على كرسي الحكم حقيقة ما يجري في الساحة اليمنية.
إن اليمن عامرة، كما قلنا أكثر من مرة في أكثر من مكان، بالخيرات التي توفر لأهله حياة كريمة، كما أنها في الوقت ذاته تعج بالكفاءات الوطنية النزيهة الملتزمة الموالية للوطن اليمني أرضاً وإنساناً، في كل المجالات والتخصصات، لكن الملفت للنظر حقا أن الحكام استمرؤوا النظر إلى ما في أيدي الغير فظلت أيديهم ممدودة إليه، واستمرؤوا أن تظل هذه الكفاءات الوطنية المتاحة التي يفترض أن تكون عدة الدولة والسلطة القائمة للخروج من دائرة الفساد المستشري ما تزال محل إهمال وتجاهل من الحكومة والرئاسة، وما يزال النظر متركزا على رموز الفساد التي أذاقت الشعب اليمني شتى أنواع البؤس والفقر والتجويع. ما يزال هؤلاء هم أصحاب الحظوة والنفوذ والسيطرة في كل مؤسسات الدولة وقطاعاتها، ولم نر غير ذلك إلا استثناءات لا تصل إلى عدد أصابع اليدين. ولقد جاءت المحاصصة بين قوى الحرب السابقة لتزيد الطين بلّة والمجتمع بؤساً ويأساً ولكن بمسميات لا علاقة لما يجري في ساحات التغيير بها، ومنها مسمى: "التغيير الثوري" الذي لم نر منه حتى هذه اللحظة ما يبعث على الأمل باستثناء إسقاط علي عبد الله صالح وبعض الرموز التي ما تزال تثير الأتربة والغبار، بل والزوابع، من حول ما يزعم أنه سلطة ثورية.
إن المجتمع اليمني على وجه العموم والأرامل والثكالى والمكلومين واليتامى من زوجات وأمهات وآباء وأبناء الشهداء على وجه الخصوص ينتظرون التغيير الحقيقي الذي يشفي غليلهم ويشعرهم بأن دماء شهداءهم التي أهرقت في شوارع وميادين وجولات المدن اليمنية الرئيسية لم تذهب هدراً، وأن آمالهم لن تذهب أدراج الرياح، التغيير الحقيقي بات مطلوباً بقوة وإلحاح، وتطهير مؤسسات الدولة والمجتمع من الفاسدين بات ضرورة حتى يحتفظ المجتمع بالقدر المعقول من التوازن والثقة بالنفس وبالشباب وبالثوار والثورة والحكومة وحتى لا يضطره تدوير الفساد الجاري إلى أن يردد بصوت عالٍ: "رحم الله النباش الأول".
محاسن الحواتي
هل يمكن أن يكون تدوير الفساد هو: الطريق إلى الدولة المدنية الحديثة؟؟ 2059