تتنافس الوسائل الإعلامية على اجتذاب أكبر قدر من المتابعين لها والمشاهدين لبرامجها والقارئين لمواضيعها، لأسباب اقتصادية تجارية أو لتكوين قوى ضغط ناعمة من خلال التأثير على قناعات وإرادات المتابع وكان الإعلام ولا يزال أهم وسائل السيطرة وخصوصاً في القرن السابق وهذا القرن.
فلقد استطاعت بريطانيا ومن خلال البي بي سي الإذاعية سابقاً والآن من خلال الإعلام الإلكتروني ومن خلال قنواتها الفضائية أن تحافظ على مكانتها العالمية واستطاعت تمرير الكثير من سياساتها وأجندتها من خلال نوعية التغطية والبرامج التي بثتها ولا تزال واستطاعت كذلك تسويق ثقافتها وأفكارها ومواقفها وبأقل جهد وتكلفة .
ولفترة طويلة كان مجال الإعلام مجالاً مستخدماً ومحصوراً من عدة دول أهمها إسرائيل وبريطانيا ومن خلال الإعلام استطاعت إسرائيل تسويق نفسها وكسب تعاطف وتأييد دولي لمشروعها، مع العلم أن الإعلام كان منحازاً لمشاريع أصحابه وبنسبة كبيرة جداً، خصوصاً أنه لم يكن هناك البديل أو المنافس، فكان المتضرر من هذا الإعلام يجد نفسه عاجزاً عن الدفاع عن نفسه أو حتى عن الكف عن متابعة ذلك الإعلام وتلك التغطية بحكم عدم وجود البديل .
واستمر الوضع على هذه الشاكلة حتى بدأ العرب يدركون أهمية الإعلام كقوة ناعمة يستطيعون من خلاله معادلة الكفة، بل والتغلب على منافسيه من خلال التوظيف للإعلام لخدمة مشاريعهم وكانت دولة قطر ومن خلال قناة الجزيرة السباقة في هذا الأمر وتبعتها دول الخليج من خلال قناتها العربية وتبعتها الولايات المتحدة من خلال قناتها الحرة ودخلت بقية الدول تباعاً.. وأنا هنا أتحدث عن القنوات الفضائية أما القنوات الإذاعية فقد كان هناك سباق مشابه، إلا أنه ليس بمثل هذا التنافس المحموم .
ليبدأ بعد ذلك سباق كبير من أجل السيطرة على العقول والمواقف ومن خلال الإعلام ومع توفر الإمكانيات الضخمة للوسائل الإعلامية ومع تعددها أصبح الأسلوب والمضمون، مضمون المادة الإعلامية، هو المحدد للمتابع لاختيار الوسيلة الإعلامية، كذلك موقف الوسيلة الإعلامية من القضية التي تغطيها وملائمة ذلك الموقف لموقف المتابع من القضية المتناولة أو الخبر المنشور.
وأصبح الاستقطاب مبنياً على المواقف وأصبح متابعة أي قناة مقياساً لتوجه الشخص الفكري والأيدلوجي والسياسي وأصبح نقل الخبر يعتمد على موقف الوسيلة منه، بعيداً عن الواقع والتوصيف الحقيقي، ففي وسيلة إعلامية يظهر المجرم بطلاً والخاسر رابحاً، والأمر العادي عظيماً والشيء العظيم تافهاً، حسب نوع التغطية وموقف الوسيلة والقائمين عليها من الحدث والغريب في الأمر أن الكل يدعي المهنية وإظهار الحقيقة ويتحدث الحيادية وعدم الانحياز مع أن الحياد والانحياز هو المفقود وأصبح المقياس الحقيقي لكفاءة الوسيلة الإعلامية هو نسبة الحياد في تغطية الوقائع والأحداث بعدما أثبتت التغطيات أنه لا يوجد إعلام محايد مائة بالمائة وإنما تستطيع أن تحكم على كفاءة الوسيلة في تناولها للمواضيع والأحدث بمقدار ما تستطيع إظهاره من حياد في تغطيتها .
كذلك فإن الحياد يمكن قياسه بشكل نسبي وليس مطلق، لأن الحسابات والقراءات للأحدث والمواقف تختلف من شخص لآخر ولأنه ليس له قواعد محددة وإنما يخضع مقياسه لأخلاق الوسيلة الإعلامية والقائمين عليها وما تعارف عليه الناس والقائمين على هذه المهنة وتظل المصطلحات المستخدمة هي الأكثر إرباكاً للمتابعين والأكثر وضوحاً ليحكم على توجه الوسيلة الإعلامية وموقفها من الأحداث والقضايا المعروضة ومنها على سبيل المثال فإن وسيلة إعلامية تقول الرئيس السابق وهو صحيح رئيس سابق ولكن التوصيف المنطقي لحالته هو الرئيس المخلوع لأنه خلع وترك السلطة على غير رغبته وبتحرك شعبي ودماء ولم يترك السلطة بالطرق الطبيعية ليكون سابقاً كغيره.. وسيلة إعلامية تتحدث عن تحرك مليوني على أنه أزمة وأخرى تقول عنه ثورة وأخرى تتحدث عن تحرك عسكري للسيطرة على السلطة بأنه تمرد وتصفه وسيلة أخرى على أنه ثورة.
وأما المواقف من الأحداث وطريقة تغطيتها فهناك العجب العجاب فمثلاً لو تطرقنا للحالة السورية فلو استمعت للقناة السورية والقنوات الإيرانية فستشعر أن لا شيء موجود في سوريا وأن الوضع على ما يرام للسلطة، إلا من قليل من المناوشات التي لا تستحق حتى الذكر وستشعر أن النظام حصين وباق وأن سقوطه خيال ووهم، وإذا ما استمعت للقنوات التي لا تتبنى وجهة النظر الرسمية والإيرانية فإنك تشعر وأن عمر النظام بات محسوبا بالأيام وأن بقاءه مسألة وقت فقط وأن سيطرته على الأرض شبه معدومة ولو حاولت أن تطلع على الأحداث من وسيلة شبه محايدة ستجد أن لا بشار أصبح يحكم وأن لا حسم على الأرض قد تم وأن اللعبة لا تزال على الأرض وإن كانت هناك مؤشرات تشير إلى إمكانية تفوق القوى الثورية السورية والجيش الحر، إلا أن الحسم لا يزال بحاجة للكثير من الوقت والجهد والتضحيات .
وفي الختام يتوصل المرء أنه لا توجد وسيلة إعلامية محايدة مائة في المائة مهما حاولت إظهار حياديتها، فلكل مواقفه وأهوائه وإن حاول إخفاءها ولكن يمكن أن يكون هناك حياد نسبي وعلى مقدار هذا الحياد ونسبته يكون التميز وتقبل المتلقي للمادة الإعلامية والوسيلة الصادرة عنها في حالة ما إذا كان هو غير منحاز لفئة أو طائفة ذات علاقة بالحدث المنقول والمنشور أو في حالة رغبته بالحقيقة المجردة بغض النظر عن اتجاهه وموقفه من الحدث .
jalalalwhby@gmail.com
جلال الوهبي
الإعلام وشيء اسمه الحياد 1863