أوجد الله عزوجل هذا الكون وسخره للإنسان، والمسخر بطبيعة الحال قابل للتغيير بحسب إرادة وفعل من سُخر له، ومن هنا كانت التغييرات الكونية التي تحدث في هذا الكون أغلبها نتاج سلوك إنساني جعله الله سبباً رتب عليه نتائجه، وهذا السلوك بلا شك ترجمة فعلية لإرادة داخلية تغلبت، وإلا فما الذي ألان الحديد لداؤود إلا إرادته وقدرته المستمدة من إرادة وقدرة الله؟ وما الذي جعل الماء يغمر أجزاء شاسعة من الأرض ـ على عهد نوح عليه السلام ـ وهو حدث كوني عظيم؟ إلا وجود طائفتين تباينت منهن الإرادة والسلوك فكان الماء هلاكاً لطائفة غرقت فيه، وطريقاً لنجاة طائفة صنعت للنجاة مركباً وإن استطالت صناعته، وهي سنة تُعلِم من جهل أن التغيير لا بد له من مركب، ولا بد للمركب من صانع متقن، ولا بد للصانع المتقن من إرادة ولا بد للإرادة من وقود كفيل ببقاء وهجها دون أن يخبوا، إن هذه المفاهيم التغيرية تحتاج منا اليوم أن نعمل على نقلها من ميادين الحرية والتغيير على امتداد الجمهورية إلى ميادين العمل والتأثير في البيوت ومقار العمل وفي أوساط الجماهير،لندمغ بها ثقافة الفساد والإفساد التي تمنهجت وتفشت فسادت كل مناحي الحياة، ولنستأصل شأفة المفسدين في هذا البلد..
ونقطع الطريق على أرباب ودعاة ثقافة الاستبداد حتى لا يعيدوا إنتاج ذواتهم من جديد، كي نقيم للعدل سلطانه، ونبني للحرية منابرها ومنائرها، ونؤثث بالمساواة مجتمع المكرمات والفضائل.
إن من أهم ما يجب علينا اليوم تعميمه بشكل صحيح من الثقافة الثورية التغيرية، أن التغيير يكمن في وجود رغبة، يعبر عنها بالإرادة، ووجود فعل أو سلوك يعبر عنه بالإدارة، ولنا هنا أن نتوقف عند هذين المفصلين المهمين من مفاصل التغيير والمتمثلين في الإرادة والإدارة لكن في هذه الأسطر سنقتصر في الحديث عن الإرادة وكونها عقل وتطلع. فمما يجب علينا أن نعيه وأن نعمل جاهدين على نقله للأجيال أن التغييرات التي طالت حياة أفراد ومجتمعات ابتدأت بإرادات جازمة سارت بأصحابها خطوات نحو التغيير وقد بين الله سبحانه أن التغيير يبدأ بإرادة تدعو للعمل، بل إنه سبحانه مع تبيينه رتب على الإرادة التي جاءت في كتابه العزيز بمعني الإخلاص في طلب المراد الأجر والمثوبة فقال جل شأنه:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) الشورى)، كما أن في قصص التأريخ والسِير ما شهد ويشهد أن أديسون الذي خرج من المدرسة بسبب فشله حسب زعم معلمه استطاع بإرادته ـ التي ما انهزمت لمزاعم معلمه ـ أن يحدث تغييراً شهد ويشهد له العالم بأسره حينما استطاع أن يخترع المصباح الكهربائي. وفي قصص التأريخ الحديث كذلك ما يشهد أنه ما كان ليتساوى سكان جنوب أفريقيا السود بالبيض لولا إرادة نيلسون مانديلا الجازمة والتي على إثرها سجن ثلاثين سنة ليتوج على إثرها وبعد خروجه من السجن رئيساً لدولة جنوب إفريقيا، إننا ومن أمام هذه الشواهد التاريخية يجب علينا اليوم أن نعى أن أديسون ما كان له أن يصنع المصباح الكهربائي لولا أنه استخدم عقله، وما كان لنيلسون مانديلا أن يحرر سود جنوب أفريقيا لولا تطلعه وتوقه للحرية والمساواة وهي فطرة ربانية فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فإذا كانت الإرادة ناشئة كما قال المفكر الإسلامي مالك بن نبي عن عقل ومثل أعلى، والمثل الأعلى هو منشأ الطموح أو التطلع فلابد علينا أن ننمي مداركنا العقلية، ونسعى جادين في كل مفاصل هذا المجتمع الذي ننشد فيه التغيير لأن نعمل على تنمية مدارك الناس العقلية من خلال الدفع بهم نحو العلم وسعة الإطلاع كما نعمل على إيجاد البيئة المشجعة على ذلك، إضافة إلى السعي الجاد والدءوب للمطالبة بالارتقاء بالمناهج التعليمية وضرورة الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في خدمة العملية التعليمة، إن الحاجة اليوم ماسة أكثر من أي وقت مضي لأن نرتقي بعقولنا وعقول الناس من حولنا حتى نوجد مجتمعاً يؤمن بالتغيير كضرورة حتمية وسنة ربانية لا مناص ولا محيد عنها، لنضمن مجتمعاً يحقق في سيره التقدم إلى الأمام، وفقا لمتغيرات الزمان والمكان، إن الإرادة كما أنها ناشئة عن عقل لم يقصد بذاته وإنما بما عقل من علم وتمييز به، فإنها كذلك ناشئة عن تطلع أو طموح أو هدف أسهم في وجوده وجود قدوات يُقتدي بهم ويجري التنافس معهم سواء على مستوي الأفراد أو الجماعات أو الدول، وما نحتاجه اليوم في هذا البلد الذي نشدنا وننشد فيه التغيير هو تحديد الأهداف أو التطلعات التي نستطيع من خلالها أن نحرك إرادات الناس نحو التغيير، دون أن نخلط بين الأهداف والاحتياجات، كما هو حاصل عند بعضنا اليوم، وهو ما أسهم بشكل كبير في انقسام الناس حيال التغيير إلى ثلاث فرق فرقة مع التغيير وفرقة ضد وفرقة صامته، أما الذين ارتضوا التغيير فالسواد الأعظم منهم، لكن ثمة شريحة لا يستهان بها من هذا السواد لا هدف لها من التغيير إلا تحقيق احتياجاتها الأساسية واليومية، في جهل واضح وبري لأهداف التغيير التي ستسير بنا بجملتها إن شاء الله لنحقق نهضة ونبني حضارة تحقق النفع للإنسانية جمعا، أما الفريق الثاني الذي وقف ضد التغيير فلأن الإبقاء على الوضع دون تغيير يعني له بقاء قوته وقوت من يعول، ولهذا وقف ضد، ولو كان يعي أهداف التغيير لما وقف هذا الموقف، أما الفريق الثالث الصامت فما وقف موقف الصمت إلا لأن الضرر لم يصله وأهداف التغيير ربما لم تبلغه لهذا همدت في هذا الفريق إرادة التغيير، من هنا كانت حاجتنا ماسة وبالذات اليوم إلى أن ننقل الثورة إلى هذين الفريقين من خلال حسن تسويق تطلعاتنا وأهدافنا التغيرية بين أوساطهم لتتغير على إثرها قناعاتهم ومن ثم تتغير إراداتهم، وإن مما يحسب للثورة ولحكومة الوفاق الوطني هنا أنها بدأت فعلا تخطو في هذا الطريق من خلال إيجاد قانوناً للعدالة الانتقالية، وهو ما يرسخ شعوراً لدى هؤلاء الناس أن لثورتنا أهدافا سامة جعلت أبناءها يسمون على العداوات والأحقاد والانتقام ليتفرغوا لبناء دولة في سبيل بنائها قامت الثورة التي استرخص فيها شهداؤنا دماءهم، ليجتمع في ظل هذه الدولة الناس بعد فرقة ويتصالحوا بعد خصومة ويتألفوا بعد ضغينة، وتتوجه جهودهم نحو البناء والتنمية، قدوتهم في هذا كله محمد صلي الله عليه وسلم الذي دخل مكة فقال لأهلها الذين قتلوا أصحابه ونكلوا به: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
إن تحقق إرادة التغيير في الفرد والمجتمع والنابعة عن علم قاد لتحديد تطلعات ومتطلبات التغيير كفيلة في إحداث تغيير جذري وشامل على كافة الصعد على الامتدادات البشرية والزمانية والمكانية، كما أنها كفيلة بإذن الله بإطلاق القدرات وتحرير الطاقات وتفعيل دور الفرد في المجتمع ومن ثم تفعيل المجتمع بكافة شرائحه ومؤسساته، بصورة تعكس مدى تغلغل إرادة التغيير في الفرد والمجتمع، أما حين تغيب إرادة التغيير عن حياة الفرد والمجتمع فإن لله سنناً يجريها قد تواتر نقلها وهي بمثابة عقوبات جرت على الأولين وستجري إن وجدت مبرراتها على الآخرين، ومن هذه السنن أن يضرب الله على هذا الصنف من الناس الذلة والتيه ويُسقط عنهم الهيبة والعزة والمنعة، وخير شاهد على هذا ما ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم بقوله:(يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها قالوا من قلة بنا يومئذ قال أنتم ذلك اليوم كثير ولكن غثاء كغثاء السيل تنتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت) فقد بين صلي الله عليه وسلم أن إرادة حب الدنيا وكراهية الموت هاتين الإرادتين المانعتين من حصول التغيير إيثارا للسلامة وطلبا للدعة والراحة كانتا وراء هذا الهوان والذل والضعف، كما أن القرآن يقص علينا أنه ما ضرب الله على بني إسرائيل التيه أربعين سنة يتيهون في صحراء سيناء حتى مات ذلك الجيل في التيه إلا بسبب عدم تحرر إرادة الجيل الذي رفض دخول الأرض المقدسة التي أمروا بدخولها كما قص القرآن خبرهم قال الله:(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (269) المائدة)
إن مما تجدر الإشارة إليه أن إرادة التغيير كلما كانت منسجمة مع إرادة الله القائل:(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) الإنسان) ومتمثلة لقول الله:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) كانت إلى التحقق أسهل وأنجح وأقرب.
نجيب أحمد المظفر
التغيير..إرادة وإدارة..!(12) 2247