كنت عضواً في فريق الاستثمار في المستقبل والذي أشرفت عليه الحكومة الهولندية في عدد من الدول العربية، ثم انتهى إلى مآل آخر لا أدري أين.. والحقيقة أننا كإعلاميين أعضاء الفريق لم نستثمر شيئاً، فقط كانت لقاءات لتحديد الدورات التدريبية المطلوبة للصحفيين وقد حظيت نقابة الصحفيين بنصيب وافر من تلك الدورات، ما علينا جاء هذا الحديث في سياق عام عن الاستثمار، لأن الهيئة العامة للاستثمار في بلادنا وفي الدول العربية أخذت الاستثمار من ناحية مشاريع صناعية، زراعية، تجارية ولن تعط الاسم مساحته الطبيعية واللغوية.. والاستثمار يصلح في القوى البشرية، ويصح في الطاقة الشمسية ويجوز الاستثمار الفكري وفق القوى الخارقة، كما أنه يمكن الاستثمار في الفضاء و...إلخ.
لكن لم يفكر أحد في استثمار الجمعات، هذا اليوم الفريد في الأسبوع "الجمعة" ففي الربيع العربي كان للجمعات حضوراً غير عادي، تعددت فيه المسميات والمعاني.. أصبحت الجمعة رمزاً ومعنى وهدفاً رفع قدسية يوم الجمعة، صار يوماً للتعبير عن الرأي الرفض للظلم والاستبداد ورافضاً للفساد وطريق للتغيير.
الجمعة التي كانت أهدئ أيام الأسبوع صارت أجملها وأروعها، خطبة الجمعة هي الأخرى تجددت وصارت أكثر حماسة وثورة وتأثيراً واتجهت إلى دور التعبئة السياسية وخرجت عن إطارها الاجتماعي العادي والروتيني، الخطبة لم تعد هي الخطبة وظهر عدد من الخطباء المميزين حتى وإن اختلفنا مع بعضهم في رؤى، إلا أن الأصوات الجهورية والمؤثرة إلى جانب الكلمة السلسة المنتقاة والخطاب الأكثر تأثيراً جعلنا نؤمن بأن البلاد حبلى بالخطباء النجباء الذين سيتجدد الخطاب الديني بهم وعبرهم، وإننا فعلاً سنخرج عن نطاق التقليدية والتلقين والإملاء وتثبيت الثابت إلى آفاق أرحب.
استثمار خطبة الجمعة واجب وطني وديني وهذه فتوى من عندي لا تحتاج إلى نقاش، لأنني أرى خطبة الجمعة هي تهيئة للمسلمين لأسبوع قادم ليعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين، ويعمل بروح عالية وهمة.. إذاً الجمعة جديرة بالاستثمار ويمكن أن تخدم برنامج الحكومة "لعامين"، فالإنجاز في مجال محو الأمية يحتاج إلى خطاب ديني هام ومؤثر "خطبة الجمعة"، تعليم الفتاة هو الآخر يحتاج إلى خطاب ديني داعم، صحة البيئة والحفاظ عليها، عمل المرأة ودورها في المجتمع.. حقوق الإنسان ومراعاة الأقلية والتبادل السلمي للسلطة والتحول نحو الديمقراطية الحقيقية، كل ذلك بحاجة إلى خطاب ديني ناضج، واعٍ، بأهداف محددة، كلما تحقق هدف تدرج الخطباء بمؤسستهم الدينية لأهداف أكبر وأسمى، لبناء مجتمع خلاق ومعطاء.
استثمار الجهات بحيث لا تكون الخطب مرتجلة أو غير محددة الأهداف، بل موجهة وباتفاق بين أطراف المؤسسة الدينية وخطبائها الأجلاء، ولا ضير إن كانت الأهداف متعددة فقط تتعلق ببعضها وتترابط مع مؤداها العام.. استثمار الجمعة بخطبها في خلق سلام اجتماعي وسياسي وإرساء قاعدة من الطمأنينة ونزع مشاعر القلق والتوتر التي تعكس نفسها على الأرض.. هذا إلى جانب جذب الأجيال المختلفة لخطاب حيوي يبعث فيها حب العمل الجماعي، والبلاغة في الخطابة.
استثمار خطبة الجمعة لإنهاء العداء والفرقة ولوضع نهاية للخطاب المتشدد الداع للاقتتال والحرب، الصراع لإزاحة الآخر وتحريم كل شيء وتكفير كل الناس، لأننا بحاجة إلى خطاب مرن، يخاطب العقول ويحترمها، خطاب إيجابي متسامح يشجع الكل على العطاء والإيجابية ويبث روح الأمل والتفاؤل.
اقترح على وزارة الأوقاف والإرشاد الاهتمام بالخطباء والتركيز على "كارزيما" الخطيب وتأثيره وقدرته على توصيل الفكرة، ولا ننسى النساء العاملات في نفس الحقل، واللاتي يقمن بأدوار هامة في قطاعات المرأة، خاصة في المناطق الريفية والنائية، حيث الثقافة الدينية التقليدية المشوبة بالعادات والتقاليد السلبية.. فالاهتمام بالخطباء والدعاة من الجنسين يساعد على العبور المجتمعي نحو الأفضل ويخدم التنمية في الوطن.
استثمار الجمعات قضية إستراتيجية ينبغي أخذها بعين الاعتبار، بعيداً عن الانتماءات السياسية والتعصب المذهبي، فالخطاب موجه لكل فئات الشعب والدين للجميع.
محاسن الحواتي
استثمار خطبة الجمعة.. 2276