وطن يتشكل في دخان.. دخان يسحب جياباً نحو عوالم لم يألفها، جياب شاب في العقد الثالث من العمر، ولد بين يدي قابلة لا تعرف حرف هجاء واحد لكنها تفقه كل أساسيات التوليد، كل مواليد القرية ولدوا ورأوا النور بين يديها.. جياب من طبقة كل الناس في بلد نام، نايم، ناشف، إلا من عرق جبين الفلاحين الذين تربت تحت رجولتهم أرض طيبة يحميها رب غفور.. جياب بالكاد أنهى المرحلة الثانوية، فالحياة في القرية صعبة بعد غزو المنتجات الصينية وتوقف عجلة الإنتاج الذاتي.. أن تدرس وتكمل تعليمك حتى الثانوية في عائلة فيها اثنا عشر صبياً معجزة لا تحدث إلا قليلاً..
أن يذهب جياب إلى العاصمة صنعاء، باحثاً عن عمل أو وظيفة حكومية هي فكرة إيجابية لا تخلو من المخاطرة.. لكنها حدثت.. التحق جياب بفرن يصنع رغيف الخبر الأبيض والأسمر لحارات عدة وسط العاصمة.. وكأن جياب بجسده النحيل يؤكد لنفسه أن رغيف الخبز أهم من كل شيء في مدينة لا يعرف فيها أحد إلا صديقه شوقي ابن قريته الذي يقاسمه نفس الظروف، يعمل طوال النهار من بعد صلاة الفجر حتى المساء ليأخذ في خاتمة الشهر مبلغاً لا بأس به، يرسل نصفه لوالدته مع رسالة طويلة يوصيها بضرورة أن يدرس أخوته وأن تهتم هي بالبيت وترممه قبل أن يأتي فصل الخريف وينهار عليهم، خاصة الغرفة الكبيرة التي يقيم فيها أخوته.. يبقى جياب لنفسه ما تبقى من المرتب يدفع منه إيجار الدكان الذي يقيم فيه رغم أنه دكان بلا حمام، لكنه سكن ملائم لقروي جاء لتوه إلى العاصمة غريباً وحيداً، إلا من آماله وطموحاته، يشتري جياب حاجياته من سوق شعبي في العاصمة.. في المساء يقصد إحدى المقاهي التي تجيد تقديم "الشاي الملبن" أي شاي بالحليب رزين حلو المذاق البعض يسميه الشاي العدني.. يختم يد التعب في المخبز ويحلي به ريقه كما يقول..
دلف جياب المقهى القديم وسط كراسيه الحديدية الصدئة والتربيزات المغطاة بمشمعات ملونة بعد أن انزاحت قشرة البوية التي كانت قبل فترة تغطيها.. أختار جياب لنفسه ركناً قصياً، لم يكن صاحب القهوة منتبهاً له إلا بعد أن علا صوت جياب.. واحد شاي يا......
ابتسم صاحب القهوة وغاب بقامته القصيرة وتوجه بين الدولابين الزوجاجين خلف باكتات الشاي والبسكوت الفارغة وعلب الحليب ثم عاد إلى الطاولة التي يجلس عليها جياب وضع أمامه كباية الشاي الملبن، فيما يده اليسرى تمسح نفسها على الثوب الذي فقد لونه الأصلي.. عاد صاحب القهوة ليختفي ثانية في هدوء.. رغم وجود عدد من الزبائن - عمال بناءـ يبدو عليهم التعب والإرهاق لذا آثروا الصمت.. دخان الشاي الملبن أو بخار الشاي يتشكل أمام عيني جياب، انسحب إلى رؤية تشكيلات الدخان تماهى معها، الصورة واضحة الآن لم ترمش عينه بل ركز على صورة وطن أخضر، تكسوة الخضرة كما ألوانه جنة.. طاف بشوارع هذا الوطن المتشكل افتقد البؤس، قسمات الفقر، بحث طويلاً لم يجد شحاتاً أو متسولاً، بحث كذلك عن شوقي صديق العمر الباحث دوماً عن "حبة سيجارة" نظر إلى وجوه الناس في هذا الوطن الأجمل وجد بشاشة لا تخفي، ابتسامات توزع نفسها، أفتقد "الخناقات" أو المشكلات التي تحدث في الشوارع لأتفه الأسباب.. أفتقد أطفال الشوارع الذين كانوا يؤذونه بأسئلتهم من أين أنت؟ ماذا تعمل؟ أذن أعطنا ريالاً..
أفتقد براميل القمامة التي يعبث بها الكلاب والقطط وجامعي القوارير والبلاستيك، افتقد الحفر والمطبات.. حتى الأنوار زاهية كأنه العيد في بلد آخر.. لا قات هنا.. لا أوداج منتفخة وجوه تلمع في رخاء واسترخاء، هنا بيوت وعمارات اغتسلت لتوها بالجمال فراح ينبض آه.. ما هذا.. إنها أشبه بالجنة.. نساء فاتنات إلى درجة الإسراف في الجمال.. لا يا رب هذا كثير إنه إسراف وأنت لا تحب المسرفين. وأنا لا أحتمل.. وطن كهذا كيف يكون؟.. أحبه.. شعور لأول مرة ينتابني فجأة يسمع ضربة قوية على الطاولة الخشبية وصوت أقوى يخاطبه، قائلاً "كل ساعة وأنت تتأمل دخان الشاي لا شربت ولا دفعت الفلوس ولا قمت.. أيش حكايتك؟!"
فزع جياب واتسعت مقلتيه نظر إلى كوب الشاي الملبن وقد تناثر نصفه إلى الطاولة.. نظر إلى وجه صاحب المقهى باحتقار رمى له بالريالات ومضي..
محاسن الحواتي
واحد شاي.. 1962