باستقراء التاريخ الإنساني بعموميته نجدهُ يُثبت أن الإنسان لم يعش أيّ فترة من تاريخه على الأرض بدون توجيه ربّاني لكيفية التعامل مع الله ومع الأرض ومع الإنسان وهذه الأسس الثلاثة هي المُكوّن الرئيسي للثقافات التي تصنع المجتمعات والأُمم والحضارات من خلال إنتاج أفكار فاعلة تُحدّد علاقة الإنسان بالأشياء والزمن لصالح المجتمع حتى تصل به إلى غاية التاريخ منه، أيّ: إلى مرحلة الإعمار الكامل للأرض بحسب التصور الاجتماعي لماهيّة الإعمار وفي رحلة الإنسان الاجتماعية هذه تؤثر فيه القيم العقائدية والأخلاقية التي تجعلُه يبذل أقصى طاقته الحيوية لصالح المجتمع الذي يكفَل له في نفس الوقت الضمانات الاجتماعية الكافية ليحيا حياة كريمة في مراحله العُمرية..
إذاً غاية العقائد والتشريعات هي تكوين ثقافة الإنسان ليكون صالح لوجوده ولإعمار الأرض ولا يمكن أن تتكوّن هذه الثقافة بدون رسالات الأنبياء يقول تعالى (هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدّهرِ لم يكُنْ شيئاً مذكورا).. لا أعتقد أن هناك أّمة حضارية بدون رسالة سماوية هكذا يخبرنا التاريخ ،إنّ الآثار التاريخية للأفكار كالكتب المُقدسة والمعابد والكنائس تُدلّل على أن الإنسان فعلاً لم يعش أيّ فترة من حياته بدون ثقافة موجهة من الله ،لكن يبقى هناك جانب من هذه الثقافه لم نُحسن قراءتهُ بتمعن وهي أن الثقافات الموجهة غالباً ما تكون لها آثار مادية فاعلة على الكون وأن غاية الثقافة الموجهة هي تفعيل طاقة الفرد والرُقي بالمجتمعات إلى أن تصل إلى مستوى الحياة الكريمة اللائقة بالإنسان المُكرّم في الخلق لذلك تُبنى المساجد والكنائس والمعابد كأثر مباشر للثقافة الموجهة،الله سبحانه أمر أبانا إبراهيم وابنه إسماعيل بعمارة الكعبة كأثر مباشر للثقافة الإسلامية التي تستهدف تنشيط الفاعلية الاجتماعية وإعمار الأرض ،الكعبة ليست كومة أحجار ولكنها احتوت على كل مكونات الحضارة البشرية، أعني الفكرة الهندسية والزمن الاجتماعي للبناء وتشكيـل التُراب لصالح الفكرة هذه هي مكونات الحضارة كما يراها الفيلسوف مالك بن نبي رحمة الله، وهي هي نفس مكونات الحضارة الغربية اليوم ،لم تكن حادثة اشتراك رسول الله صلى عليه وسلم في بناء الكعبة محض صُدفة بل هي مقصودة وهي رسالة موجهة مفادها أن عمارة الأرض واجب إنساني قبل أن تكون تكليفاً دينياً، أي أن خدمة الإنسان والارتقاء به عبادة اجتماعية مُقدّمة على العبادة الفردية (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)وكأنما وجود الكعبة التاريخي رسالة للبشرية مُجسّدة على هيئة شكل هندسي ومؤسسة على فكرة وجهد وزمن اجتماعي مفادها "هذه هي مكونات الحضارة وهذا ما يريده الله منكم إعمار الأرض والعيش وفقاً لمنهجه لمن أراد الحياة سعيداً في الدنيا والآخرة" ولذلك وصِفَ هذه الشكل الهندسيّ ببيت الله ،لقد قصدتُ من هذا الاستطراد القول إن تحقيق الهدف الإستراتيجي من وجود الإنسان في الأرض هو عبادة الله بالخضوع له على المستوى الفردي وتحويل هذا الخضوع إلى فاعلية على المستوى الاجتماعي تؤدي بالضرورة إلى الوصول إلى مستوى إعمار الأرض وهذه هي العبادة الاجتماعية لله.. وعلى هذا فالسُلطة السياسية ليست مُكوّناً دينياً ولا غاية اجتماعية ولكنّها وسيلة لضبط إيقاع المجتمع أثناء مسيرته لتحقيق الغاية من وجوده، أعني الخضوع لله بالتّعبد وبإعمار الأرض.. لهذا ولكل ما سبق تبيانُه اقتضت الضرورة القبول بالحلّ السياسي والتوجه للصناديق، فالحفاظ على اليمن أرضاً وإنساناً غايةٌ دينية وحضارية من أجلهما قامت الثورة...
د/ عبدالله الحاضري
إعمار الأرض 1977