إن مما يثير الدهشة والعجب وجود ألسنة تدافع عن الحاكم الجائر بحجة أن هذا هو مذهب السلف، رامين المعتصمين بأنهم خوارج يجب مناصرة الحاكم عليهم،وآخر ما رأينا ما هو سطره من ينتسبون إلى العلم وأهله في بيانهم المسمى ببيان علماء اليمن.
واني أكتب هذه الأسطر والكمد والألم يقطع القلب لما أراه من الاعتداء على الشريعة والخلط بين المصطلحات وتنزيل الأحكام في غير مواقعها ولما أراه كذلك من تحميل السلف ما لم يقولوه وثالثها: كيف يليق بتلك القلوب أن تكون ضد شعبها وواقفة مع الجائر.
فعزمت على إبداء الرأي الصحيح ليحق الحق ويزهق الباطل، وقد حصرت ما سطرته في نقاط:
النقطة الأولى: إن الفتوى مقامها عظيم وهو فن خاص قل من يتقنه، ومهمة لا تقبل التطفل ولذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه).
النقطة الثانية: إن المفتي كالطبيب فقبل صرفه الدواء وجب عليه تشخيص الحالة وإلا ضر دواءه، والمفتي مع الفتوى يجب عليه تشخيص الحالة المسئول عنها قبل أن ينزل الأدلة والأقوال، وتشخيص الحالة يكون بالقراءة الواقعية لتلك الحالة، ولذلك اشترط الفقهاء على المفتي معرفة الواقع الذي سينزل الفتوى عليه، ومن ذلك ما ذكره ابن القيم عن الإمام احمد في آداب الفتوى ومنها:الأدب الخامس: (معرفة الناس)، وكم نجد من المبكيات من جراء تنزيل الفتاوى في غير محلها، ومن ضمنها ما نراه اليوم من الدفاع عن الحاكم الجائر والهجمة الشرسة على الشعب الضعيف لعدم المعرفة التامة بنظام الحاكم، وسعيه الحثيث على تدمير البلاد وما ستواجهه البلاد من عقبات بسياسته المدمرة.
النقطة الثالثة: الخلط بين المصطلحات عرقلة كبيرة للفتوى حيث انك تنزل مستلزمات ذلك المصطلح على غيره وبالتالي صار المختلف مماثلا، يدرك هذا الكلام من يمارس الفتوى، وهنا نجد خلط بين المصطلحات فمثلا (مصطلح الخوارج): كون المفتي ينزلها على هؤلاء المعتصمين معناه وجوب قتالهم بناءً على الأدلة الآمرة بقتل الخوارج مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( لئن ادر كتهم لاقتلنهم قتل عاد).
إذ ليس كل من خرج على الإمام يسمى خارجيا و إذا قلنا بذلك لزمنا أن نقول على السيدة عائشة والزبير ومعاوية رضي الله عنهم خوارج، وهل تقولون بهذا أيها السادة الخطباء والعلماء؟؟!!
إن الخارجين على الإمام على أربعة أقسام:
القسم الأول الخوارج: وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم التحكيم ثم صار لهم آراء ومعتقدات خاصة بهم، منها تكفير عثمان وعلي والحكمين. وأصحاب الجمل ومن رضي بتحكيم الحكمين رضي الله عنهم أجمعين، ومنها تكفير مرتكبي الكبيرة ووجوب الخروج على الإمام الجائر، ولم تنقرض هذه الطائفة.
القسم الثاني المحاربون: وهم قطاع الطرق المفسدون في الأرض إذا كان لهم منعة وسلاح-وبعض العلماء لا يشترط السلاح- واستعرضوا الناس، فإن على الإمام - إذا تمكن منهم أن يقيم فيهم حكم الله في قوله - تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ... } أما إذا لم يتمكن الإمام منهم بعسكره فإن على باقي الرعية أن تقاتل معه حتى يقيم الحد عليهم إذا استوجبوا ذلك. على شروط ذكرها الفقهاء يجب توفرها في إقامة الحد على المحاربين ينظر في موضعه.
القسم الثالث البغاة: وهم الذين يخرجون على الإمام طلبًا للملك بتأويل سائغ، أو غير سائغ، وفي حكمهم من خرج على الإمام الحق انتقامًا أو عصبية، أو قبلية، أو لغرض دنيوي، ونحو ذلك، فهؤلاء لا يقاتلون ابتداء، وإنما يسعى في الإصلاح بينهم وبين الإمام، فإن كان لهم مظلمة رفعت عنهم، وإن كان لهم شبهة بين لهم وجه الحق فيها، وإن كان لهم حق أعطوا إياه، فإن لم ينصاعوا بعد ذلك إلى الإصلاح وبدأوا في القتال ففي هذه الحالة يقاتلون عملاً بقوله تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
لكن هنا مسألة مهمة يجب الانتباه لها وهي: من هو الإمام الذي إذا خرجوا عليه سموا بغاة بمعنى حتى من خرج على الجائر يسمى باغيا؟ قد وقع الخلاف بين أهل العلم في ذلك، فالحنفية والمالكية يشترطون عدالة الحاكم أما الحنابلة والشافعية فلا يشترطون العدل بل ولو كان جائرا مادام أن الأمة خضعت له واستتب الأمن بوجوده.
القسم الرابع الخارجون بحق: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في تعقيبه على الغزالي... وليس الذي قاله مطردا في كل خارجي فإنهم على قسمين: أحدهما من تقدم ذكره، والثاني من خرج في طلب الملك لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضا: قسم خرجوا غضبا للدين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق، ومنهم الحسين بن علي وأهل المدينة في الحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط سواء كانت فيهم شبهة أم لا وهم البغاة. فتح الباري (12 / 286) وقال:وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور ولا يحل قتاله وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته. فتح الباري (12 / 301)
فليس كل من خرج سمي خارجيا، نعم من أهل العلم من عرف الخوارج من جهة سياسية فعرفهم بأنهم كل من خرج على الإمام لكن يتنبه الباحث ويفرق بين هذا التعريف والتعريف الذي تتنزل عليه أحكام الخوارج فلينتبه لهذا.
النقطة الرابعة: إن ما يحصل اليوم من قبل الشعوب وخروجها إلى الشارع وسيلة ضغط لتنحي الحكام تخضع لقاعدة ( المصالح والمفاسد من حيث الحرمة والحل ) فقد يفتى بحرمتها في موضع وقد يفتى في موضع بالحل أو الوجوب تارة.
النقطة الخامسة: ليس من منهج السلف الدفاع عن أئمة الجور لقول الله تعالى ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) وقال (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) وقال صلى الله عليه وسلم (إنه سيكون أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض) وهاتوا لنا واحدا من السلف وقف مع الحجاج أو يزيد أو غيره من أئمة الجور مدافعاً ومناصراً.
بل نجد نصوصاً لبعض السلف تصرح بان الخوارج لو خرجوا على الإمام الجائر لا يتعرض لهم، بل بعضهم أمر بالقتال معهم إذا ظهر صلاحهم:
فقد أخرج الطبري بسند صحيح عن عبد الله بن الحارث عن رجل من بني نضر عن علي- رضي الله عنه- وذكر الخوارج فقال: إن خالفوا إماما عدلا فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائرا فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالا. فتح الباري (12 / 301) وقد قال مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن القاسم: ( إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقتال معه، وأما غيره فلا، دعه وما يراد منه ينتقم الله من الظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما ). شرح الخرشي على مختصر خليل (8/60). وقال القرطبي: إذا خرج خارجي على إمام فاسق والخارجي مظهر للعدالة أمهل حتى يتبين عدله أو يجتمع الجماعة على خلع الأول..) تفسير القرطبي(1/273) وراجع أيضا ما قاله ابن حزم في الملل والنحل.
النقطة السادسة: الحذر أن يكون العبد من أعوان الظلمة دون أن يشعر فالمسألة خطيرة، فالمدافع حينما يدافع عن مثل هؤلاء ويؤيدهم على عملهم فهو معاون لهم قال السيوطي رحمه الله: والإعانة على المعصية معصية ولو بشطر كلمة.والله سبحانه يقول ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
النقطة السابعة: لا اقصد بكلامي الذين اعتزلوا وسكتوا فلم ينصروا الحاكم ولم يصوبوا عمل الشعب، فهؤلاء سكتوا عن علم وخافوا على دماء الشعب من غدر الحاكم، وإنما قصدت من جعل نفسه محامياً وذابا عن الحاكم.
والله تعالى اعلم وصلى الله وسلم على محمد وأله وصحبه
googel-77@hotmail.com