في أبهى أحلامي، لم أكن أتخيّل أن أستيقظ من النوم فجرًا، فأجلس للعمل، لأجد نفسي أمام مشاهد مباشرة لأشبه ما تكون عملية تحرير! ومن أين تنطلق؟ ليست من جيوش ولا ترسانات، وإنّما من قطاع غزة، القطعة الضئيلة الصغيرة في جنوب فلسطين.
جيلنا المنكوب بالكامل، الذي لم يرَ يومًا منصفًا في حياته العريضة، إلا لحظات عابرة سرعان ما سُرقت منه، يصحو على مشاهدة فيلم ولا في الأحلام، لمقاومين ينزلون خلف خطوط العدو، ويقتلعون الجدار العازل بجرافة، ويفجّرون بوابات المستوطنات، ويقتلون، ويأسرون، من عدوهم الذي نال منهم ما نال، وأذاقهم الويلات طيلة عقود من الاحتلال.
هؤلاء الشبان، الذين فجأةً اقتلعوا كلّ شيء، خلعوا المستحيل مع الجدران، وهدموا الأسطورة مع المستوطنات، وقتلوا القهر مع الجنود، الذين تبلغ معظم أعمارهم بين العشرين وما بعد الثلاثين، هم أبناء الأمس القريب، الذين كانوا يلقون الحجارة في الانتفاضة الأولى، ثم أمسكوا السكاكين في الانتفاضة الثانية، أو لم يحضروا هذه ولا تلك، وإنّما قدّموا الحياة على وضع راهن، وأمر واقع، فوجدوا غزة بعد قليل تحت حصار دائم، ووجدوا الضفة معزولة عن القطاع، والقدس حكرًا على من يعطيهم الاحتلال التصاريح، وأرض هذه البلاد التي هي لهم، وملكهم، لا يستطيعون رؤيتها، ولو من النافذة.
أيّ أبطال هؤلاء الذين يستيقظون ذات صباحٍ فينفذون القرار بالعبور من الممكن، من الردّ، من الدفاع، إلى المستحيل!
هؤلاء الأطفال كبروا الآن، الرجال الذين كانوا أشبالًا حول أحمد ياسين قبل ثلاثين عامًا، وحملوا نعشه الطاهر شهيدًا قبل عشرين سنة، وباتوا مع قادتهم في الخنادق يطبخون طبخة النصر على مهل، تخيّل طبخةً تستوي في أربعين سنة؟ كيف سيكون شكلها؟ كيف سيكون نضجها؟ طهوٌ على درجة حرارةٍ واحدة، هي كلّ ما يملكونه في أيديهم، ثم يمتلكون أكثر، فيفكرون بهدوء أكبر، ليدّخروا من يومهم لغدهم، الذي يعلنون فيه فجأةً عن حضورهم الخاطف، المذهل، في يوم التجلّي الأعظم!.
على الأرض، كانت الدراجات النارية، وعربات الدفع الرباعي، وفي الجو كانت المناطيد المصنوعة يدويًّا، وفي البحر كانت الضفادع البشرية، وفي السماء، كانت عشرات الآلاف من الصواريخ محلية الصنع، متقَنة الصنع للغاية، تزغرد نحو الأراضي المحتلة، تزلزل "أمن إسرائيل"!.
كلّ ذلك لم يولد فجأة، وكلّ ذلك لم يكن قرارًا لحظيًّا، وكلّ ذلك لم يأتِ صدفة، وإنّما بصبرٍ سيُدرّس بصعوبة على استيعاب تفاصيله! أيّ أناسٍ أولئك الذين يستخرجون نصرًا من رحم العدم؟ وأيّة معادلة تلك التي تُكتب في الهواء فتثبت؟ وأيّ أبطال هؤلاء الذين يستيقظون ذات صباحٍ فينفذون القرار بالعبور من الممكن، من الردّ، من الدفاع، إلى المستحيل! إلى الهجوم! إلى المباغتة؟ إلى الاقتحام؟ من خانة رد الفعل المقاوم، إلى الفعل المحرِّر؟ كل ذلك لم يكن إلا درسًا أعظم، ويومًا تاريخيًّا بين مئات السنين، يكتب أوضح درس في التاريخ بالحدث والمكان والزمان والعنوان: فن العبور إلى المستحيل!.