بمرور الوقت ندرك عظيم ما اجترحه أبطال اليمن الميامين في مقارعة الظلم والطغيان الإمامي،
لقد قاسى اليمن واليمنيون في عهد أئمة الكهنوت بما فيهم الإمام يحيى وسلالته أشد أنواع الظلم وعاشوا في عمق البؤس والمعاناة والظلام، وقادوا أعظم حدثا في التاريخ اليمني الحديث بتفجيرهم لثورة ٢٦ من سبتمبر المجيدة، سنعيش اليوم مع واحدة من صور النضال الوطني العظيم الممتد إلى قرابة الألف عام.
قبل خمسة وثمانين عاماً وتحديداً في 8 مارس 1928م من القرن المنصرم قام الإمام يحيى حميد الدين بتجهيز جيش جبار لاجتياح تهامة وإخضاع قبيلة الزرانيق، حيث أعلن زعيمها الشيخ أحمد فتيني جنيد أنه لا سلطان للأئمة عليه وأن الإمام عميل بريطاني لأنه وقّع على صلح دعان عام 1911م وانتهك سيادة اليمن الطبيعية وسلمها للمحتلين، لكن الإمام رد عليه بأنه عميل لإيطاليا التي كانت تحتل الجانب الغربي من مياه البحر الأحمر في إرتيريا وأنها تمده بالسلاح والمال.
على أثر ذلك وصل جيش الإمام إلى تهامة وعاث فيها فساداً ونهب أكثر من «100» قرية كان أهلها مسالمين، لكن وبمجرد وصول قوات الإمام بقيادة علي بن الوزير نائب الإمام حينها والطامح إلى وراثة العرش إلى ضواحي مديرية الدريهمي جنوب مدينة الحديدة حالياً انقض عليه مقاتلو قبيلة الزرانيق وأذاقوه هزيمة منكرة ما دفعه للعودة إلى صنعاء ليجهز الإمام جيشا آخرا بقيادة قائد من صعدة ومن قبائل بني قيس يسمى علي بن يحيى القيسي.
كان قد سبق الغزو العسكري الإمامي لتهامة عددا من الانتهاكات والجرائم التعسفية بحق أبنائها في محاولة يائسة للنيل من شموخهم وحريتهم والإرث المادي والمعنوي الذي ورثوه عن آبائهم ، حيث ألغى الإمام يحيى المدارس والمعاهد والأربطة العلمية التي اشتهرت بها تهامة، فـنهبَ الوقف والأراضي الخاصة بالشيوخ الشوافع وأغلق المدارس الدينية، وخصوصًا زبيد والتي تعد أهم معاقل الشافعية في الجزيرة العربية.
يوضح البردّوني في كتابة "اليمن الجمهوري" أنّ بداية الشرارة بين الزرانيق والإمام الكاهن يحيى حميد الدين، كانت عندما تجاوز الأخير حدود الجبال وأخذ يمد سلطته حتى تهامة، وقوبل هذا الفعل بانتفاضة من قبل الزرانيق كانت عصيّةً على الهدوءِ في النفوس.
وفي مارس 1925م وبتأثير الثقافة الرافضة للظلم الإمامي في منطقة تهامة اشتعلت الحرب بين القوات الإمامية وبين قبائل الجرابح بالزيدية شمال مدينة الحديدة وحدثت معركة كبيرة .
وتتالت المعارك بين أبناء تهامة وجحفل الإمام يحيى بقيادة ولاته وابنة الطاغية أحمد بن يحيى، في عدد من الوقعات والمشاهد العظام كان من أبرزها
معركة الحسينية، والقصرة ، ويوم الجلة أو واقعة القيسي، ومعركة القوقر ، وغيرها من المعارك.
وقد تنوعت وسائل الزرانيق في مقاومة جيوش الإمامة الظالمة وتضمنت الأساليب: حرب العصابات، والمواجهة المباشرة، والكمائن، والقنص، وغيرها من الأساليب التي أذاقت الإمامة وجحافلها الويل والثبور.
وللناظر بعين الإنصاف يجد أن ماضي أبناء الزرانيق كحاضرهم، مُشّبع بِروح المُقاومة، وهم أهل البلد، خَبِروا السهل، وأجـادوا ترويضه، فيما الإمامي المُتفيد، جاء بانتفاشة كاذبة، مُعتقدًا أنَّ السهل سهلًا، وأنَّ أهل السفح سواء؛ فكان تبعًا لذلك صيدًا ثمينًا لعدة كمائن مُتقنة، وغارات ليلية ناجحة، وحين حصر الضحايا، الذين تجاوز عددهم المئات؛ بل الآلاف، أدرك الإماميون أنَّهم اُقتيدوا إلى مَتاهـة مُوحشة، الخروج منها كما الدخول، كلفهم أيضًا الكثير.
وهناك العديد من المواقف البطولية التي سجلتها قبائل الزرانيق في المواجهات التي دارت مع جحافل الكهنوت، يذكر منها عرفات الحضرمي، أنه حينما أرسل الإمام الطاغية أحمد بن يحيى، لعاقل عزلة التينم الواقعة غرب بيت الفقيه مندوبا ينصحه بالدخول في حكم الإمام فقال (إذا كان الله ملك أحمد أرضنا فلن نملكه أرواحنا وفينا عرق ينبض)، وكذا موقف المناضل شلاع جروب والذي تم أسره وجيء به إلى الإمام الطاغية أحمد بن يحيى، في ببت الفقيه وأمر أن يضعوه على فوهة المدفع وهو مربوط فاتجه إلى المدفع وركلة بقدمه قائلا (مدفع.. مدفع الراحتين ودينا. أي أرسلنا والمقصود (أرض الجنتين المسمى أرض الراحتين، ثم أمر الإمام بسجنه في سجن حجه).
ومن المعروف أن قبيلة الزرانيق يعود نسبها إلى عك بن عدنان والأصل زرنق نسبة إلى زرنق بن الوليد بن زكريا بن محمد بن حامد بن معزب، وهي تسكن في بقعة مستطيلة من سواحل اليمن ما بين الحديدة وتعز مرورا بمدينة زبيد الشهيرة وما بين البحر الأحمر وجبال ريمة فطول هذا الشريط ثماني ساعات ومتوسط عرضها ساعتان بالسير الاعتيادي تبدأ من مدينة الدريهمي؛ نقلا" عن صحيفة الجمهورية" بتصرف.
اليوم أصبحنا نرى ما كان تاريخاً يروى، وقصصاً تحكى، وماضياً في الذاكرة والخيال، أضحى واقعاً مؤلماً يعيشه أبناء اليمن مجدداً ويعاني منه شعب بأكمله وجوار باتساعه وامتداده.
إن ما صنعته ومارسته أيادي الإمامة الكهنوتية التي استولت بفكرها على اليمن لقرون خلت، عاد أحفادها من الحوثيين وأنصارهم من المتربصين بالجمهورية ليمارسوه من جديد بغية العودة إلى عهود الظلام والكهنوت وجر الناس نحو الماضي الأسود من التاريخ الإمامي البائد.
ومنذ انقلابها على الدولة والجمهورية في ٢١ من سبتمبر من العام ٢٠١٤م تواصل مليشيا الشر والكهنوت الإمامية "بنسختها الحوثية" نهج الظلم والطغيان الموروث، وتتواصل الانتهاكات والجرائم الجسيمة التي لا تسقط بالتقادم بحق سكان قرى ومديريات محافظة الحديدة.
أتى الإماميون هذه المرة واستجلبوا معهم ما يفوق جميع مساوئ من سبقهم من أئمة الطغيان في التاريخ اليمني، وغلَّفـوها بمساحات شاسعة من القهر والذل والحرمان، يقول الأستاذ بلال الطيب صاحب كتاب "المتاهة .. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن" «وما الكارثة الحوثية إلا امتداد لذلك التاريخ الآثم، أطلت بارزة القسمات، واضحة المعالم، برهنت لنا وبشدة، أنَّ الخلاف لا حـدود له، وأنَّ القطيعـة لا نهايـة لها، وأنَّ التوجس من المُستقبل له ألف سبب يُبرره».