;
محمد مصطفى العمراني
محمد مصطفى العمراني

ظاهرة الملوك العلماء في الدولة الرسولية ـ الدلالات وجوانب التفرد 857

2022-03-13 08:35:17

الحلقة الأولى 

منذ دخول الإسلام إلى اليمن وإلى اليوم أربعة عشر قرنا لم تشهد اليمن خلالها دولة حضارية مثل الدولة الرسولية التي شكلت الاستثناء الحقيقي في تاريخ أتسم بالظلم والاضطرابات في ظل سيطرة الكثير من الدول المتحاربة والمتصارعة التي كانت تسيطر على مناطق لفترة ثم تنزوي وتنتهي لصالح دولة أخرى وهكذا فما هو السر الذي جعل للدولة الرسولية كل هذا الثراء الحضاري الشامل والتفرد المعرفي والتميز والرقي في مختلف المجالات؟!

من أبرز أسباب فرادة الدولة الرسولية وتميزها كدولة حضارية هي :" ظاهرة الملوك العلماء " وهي ظاهرة تميزت بها الدولة الرسولية ، رغم أن أئمة الزيدية كانوا من العلماء المجتهدين لأن المذهب الزيدي يتشرط في الإمام العلم والإجتهاد كما كان لهم مؤلفات إلا أن علمهم لم ينتج عنه حركة علمية شاملة أو تطور حضاري ومعرفي على مستوى الدولة على عكس ملوك الدولة الرسولية الذين أنعكس علمهم بشكل إيجابي في الدولة وفي رقيها وتطورها وقوتها وتعاملها مع الرعية والعلماء والدول المجاورة . 

ولذلك يرى المؤرخ الكبير القاضي اسماعيل الأكوع رحمة الله تغشاه أن الدولة الرسولية كانت أبرز دول اليمن الحضارية ، وأخلدها ذكرا ، وابعدها صيتا ، وأغزرها ثراء ، وأوسعها كرما وانفاقا فعصرها يعتبر غرة شامخة في مفرق جبين اليمن في عصرها الإسلامي ، وذلك لأن عصرها كان أخصب عصور اليمن ازدهارا بالمعارف المتنوعة ، وأكثرها إشراقا بالفنون المتعددة ، وأغزرها انتاجا بثمرات الأفكار اليانعة في شتى ميادين المعرفة ، وما ذلك إلا لأن سلاطين وملوك الدولة الرسولية كانوا علماء فاهتموا بنشر العلم في ربوع اليمن على نطاق واسع ، ولا سيما في المخاليف التي كانت خاضعة لهم وراضية بحكمهم مثل تعز وزبيد والجند وذي جبلة وعدن وظفار الحبوضي ، ومعظم المناطق حتى في مكة المكرمة ، بنوا المدارس التعليمية والاربطة الثقافية ، واختاروا أبرز العلماء دراية ، وأغزرهم معرفة ، وأشهرهم ذكرا للتدريس في مجال تخصصاتهم ، وأوقفوا عليها كرائم أطيانهم الزراعية لإنفاق محاصيلها على المدرسين، وعلى طلبة العلم ، وعلى القائمين بخدمة الدارسين والعاملين عليها ، وتوفير لوازم الانتفاع بها وصيانتها ، كما فتحوا لها خزائن كتبهم التي كانت تزخر بنفائس الكتب وروائعها ونوادرها في شتى فنون العلم ، وفق مقدمة هذه الخزائن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر التي كانت تضم مائة ألف مجلدا ونيفا وقد أهديت للمك المؤيد نسخة من كتاب " الأغاني " بخط ياقوت المستعصي فأجازه الملك بمال وفير ، قدرها صاحب الدرر الكاملة أنها مائتي دينار مصري ذهبية (1) .

ويقول أستاذ التاريخ في جامعة صنعاء الدكتور محمد علي العروسي : ( عرفت اليمن في العصر الرسولي (626- 858ه/1229-1454م) نهضة علمية وثقافية واستقراراً اقتصادياً وسياسياً ، وتطوراً في الزراعة والصناعة، وشهدت مدن اليمن المختلفة توسعاً وتطوراً في العمران والبناء غير مسبوق ، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الملوك الرسوليين كانوا علماء، اجتهدوا في طلب العلم وجَدّوا في اكتساب المعارف حتى بلغوا درجات جهابذة العلماء ومكانتهم العظيمة، فصنفوا المؤلفات الجليلة النافعة المفيدة في مجالات وفروع العلوم المختلفة، وكرموا العلماء من عامة الناس وأنزلوهم في المكانة التي تليق بحالهم، وكافؤوهم على مصنفاتهم، واستضافوا الكثير من العلماء المشهورين واستقدموهم من مختلف أقطار العالم الإسلامي، ورغبوهم وحببوا إليهم البقاء والعيش في اليمن بغية الاستفادة والاستزادة من علومهم. انتشرت في عصر هؤلاء العلماء الملوك مجالس العلم والأدب، وظهرت وانتشرت مئات المنشآت التعليمية المختلفة من مدارس وأربطة علم وخانقات وغيرها، ودُرست العلوم المختلفة فيها، وزخرت الجوامع والمساجد بحلقات الدرس، وتحولت منازل بعض الفقهاء إلى مدارس علم، وتعلم الملك والغني والأمير والفقير واليتيم.) (2) 

ويرى الدكتور العروسي في بحثه " العلماء الملوك في عصر الدولة الرسولية " أن ملوك الدولة الرسولية لم يكونوا علماء فحسب بل كانوا أيضا يحرصون على تعيين مستشاريهم من العلماء، وولوهم أهم وأعلى المناصب والوظائف، ومنحوهم كامل الحرية الفكرية : يكتبون ويقولون أراءهم بصدق وأمانة دون خوف أو تردد، وكان إذا وجه عالم نصيحة أو نقدا أو مقترحاً يصحح مسارا أو يفيد الناس تقبله الملك وعمل به وقدر صاحبه وقربه منه .

وبينما يرى القاضي اسماعيل الأكوع رحمة الله تغشاه أن ملوك الدولة الرسولية كانوا علماء لهم مشاركة قوية في كثير من العلوم ، ولبعضهم باع طويل في معرفة علوم لم تكن شائعة ولا معروفة في اليمن آنذاك ، ومنها معرفة بعض اللغات الأعجمية ، فكان ثمار هذه الثقافة المتعددة النواحي صدور كثير من المؤلفات الغربية وفي بابها ، والفريدة في موضوعاتها ، بعضها كان من تأليفهم قبل توليهم الحكم وبعضها كان يتولى كتابتها بعض العلماء نيابة عنهم بعد ان يرسموا لهم الفكرة أو الموضوع ويتم ذلك تحت اشرافهم وينقل الأكوع عن المؤرخ علي بن الحسين الخزرجي المتوفي سنة 812هـ في ترجمته للسلطان الأشرف اسماعيل بن الأفضل العباس بقوله : " وذلك أنه ـ أي الأشرف ـ كان يضع وضعا ويحد حدا ، ويأمر من يتمه على ذلك الوضع فما ارتضاه أثبته وما شذ عن مقصوده حذفه وما وجد ناقصا أتمه " .

كما ذكر تقي الدين الفاسي في كتابه ( العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ) في الجزء الخامس صـ 96 في ترجمته للسلطان الأفضل العباس بن المجاهد الرسولي بعد سرده لبعض مؤلفاته ما يلي : ( وبلغني أن هذه الكتب ألفها على لسانه قاضي تعز رضي الدين أبو بكر بن محمد النزاري الصبري ثم ذكر الأكوع نماذج عدة من هذه المؤلفات .

لكن المؤرخ الكبير الدكتور عبد الرحمن عبد الواحد الشجاع يرد على هذه الاتهامات بقوله : ( شهد هذا العصر ـ عصر بني رسول تسنم السلاطين العلم والمعرفة والثقافة بأنواعها المختلفة ، فلم يكتفوا بتولي ناصية الحكم ، ومقاليد السياسة وإدارة المعارك الحربية فحسب ، وإنما صاروا يخوضون ميادين العلم الثقافة : دراسةً تحقيقاً وتأليفاً ومشاركةً ، بل ومنافسة في المزاحمة أمام العلماء لتلقي العلم .

وقد قيل بأن السلاطين أو بعضهم ، قد استغلوا علماء ليؤلفوا كتباً ثم تنسب إلى أولئك السلاطين ـ كما ذكر ذلك تقي الدين الفاسي في " العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين " أو المحقق عبد الله محمد الحبشي في " حكام اليمن المؤلفون المجتهدون " إلا أنه رغم ما يقال من مثل هذا الكلام إلا أن الحقيقة التي لا مرية فيها أن السلاطين الرسوليين كان لهم اهتمام خاص بالعلم ، غير التشجيع والعطاء في سبيله بل لتلقيه ومدارسته والتأليف في مجالات متنوعة .

ولا أقل من أن نشير إلى أن بعض هؤلاء السلاطين كان ينزل عن كرسي الحكم ليجلس بين يدي العالم القادم إلى القادم لما يعلم من أنه يحمل علماً ، كما فعل السلطان الأشرف الثاني اسماعيل الرسولي ( ت 803 هـ ـ 1400م ) الذي قعد بين يدي القاضي مجد الدين الفيروز أبادي ( ت 817 هـ 1414م ) في مجلس الحديث المنعقد في زبيد ليسمع منه صحيح البخاري .  

وكذلك قعد أبنه السلطان الناصر أحمد ( ت 825 هـ 1421م ) أمام القاضي عز الدين بن عبد العزيز بن علي التويري ( ت 825 هـ 1421م ) مع مجموعة من الفقهاء في تعز .

shape3

ويضيف الدكتور عبد الرحمن الشجاع : " أما التأليف والانتاج الثقافي للسلاطين فإننا نجد هذا شائعا في سيرهم ، بل كانوا من أوائل من خاض غمار التأليف في مجالات من العلوم قد لا يخوضها غيرهم كما هو حال المظفر بن يوسف ثاني سلاطين بن رسول ( ت 694 هـ ـ 1294م ) فقد برع في علم الصناعات وفي الفلك وفي الطب . (3) 

وقد أورد الدكتور الشجاع عشرات الأمثلة سوف نشير إليها في الحلقات القادمة بإذن الله .

* عصر ذهبي للعلم والعلماء  

يقول الباحث الدكتور بشير زندال " تميزت الدولة الرسولية بظاهرة السلاطين العلماء في الدولة الرسولية. فأغلب سلاطينها وأمرائها وملوكها قد برعوا في التأليف في الزراعة والفلك وفي الأنساب والتاريخ والصنائع. فمن مؤلفات الملك عمر بن يوسف بن رسول “كتاب الجامع في الطب، وكتاب الإسطرلاب، وكتاب التبصرة في علم النجوم، وكتاب التفاحة في معرفة الفلاحة”. ومن مؤلفات الملك المجاهد علي بن داوود بن يوسف الرسولي، كتاب الإشارة في العمارة، كتاب في الخيل وصفاتها وأنواعها وبيطرتها ”. (4) 

ولعباس بن علي بن داوود، “كتاب بغية الفلاحين، وكتاب الألغاز الفقهية” كما ألف الأفضل الرسولي (778 هـ) أول معجم متعدد اللغات في تاريخ المعاجم العربية والمعروف بـ (قاموس السلطان)، أو (معجم السلطان)، ويشمل هذا المعجم على حوالي 1200 كلمة عربية مع مرادفاتها باللغات العالمية المزدهرة في عصره، الفارسية والتركية واليونانية والأرمنية والمغولية. ليصبح أول معجم بست لغات .

وقد كان عصر بني رسول أخصب عصور اليمن، وأكثرها إزدهاراً بالعلم، لاهتمام بني رسول بنشر العلم ورفع مكانة العلماء عندهم وتكريمهم وفتح أبواب قصورهم لهم في أي وقت شاءوا. مما جعل كثيراً من العلماء يولون وجوههم شطر مدينة تعز، حاضرة الدولة الرسولية .

كما كانت اليمن مكاناً يحج إليه العلماء من كافة أنحاء العالم الإسلامي كالإمام اللغوي مجد الدين الفيروز أبادي (817 هـ) الذي وفد على الأشرف الرسولي وتصدر في مدينة زبيد للتدريس، وكان الملك الأشرف أحد من أخذ عنه، ثم ولاه الأقضية . 

وقد ألف في زبيد قاموسه الشهير “القاموس المحيط” واستقر فيها حتى مماته. وغيره من العلماء أمثال ابن حجر العسقلاني وغيرهم . 

وقد أحصى البعض من المؤرخين أكثر من 150 مدرسة علمية أقامتها الدولة الرسولية، منها ثلاث مدارس بمكة والبقية في مختلف مدن ومناطق اليمن الكبير حينها، ولم تكن تلك المدارس كمدارس اليوم بل هي أشبه ما تكون بجامعات واكاديميات علمية مرموقة فيها المئات من العلماء والآلاف من طلبة العلم . 

ويرى الدكتور سفيان عثمان - الباحث الحاصل على الدكتوراه في تاريخ الدولة الرسولية - أن الرسوليين غلَّبوا بناء المدارس والمساجد على القلاع والحصون لسببين اثنين :

الأول أن ملوك الدولة الرسولية شكلوا امتداد لما بدأه الأيوبيون الذين رأوا أن أنجح وسيلة لمقارعة المد الإسماعيلي الذي كان مسيطرا على مناطق كثيرة من اليمن هو تدريس مذاهب السنة .

  بينما يتمثل السبب الثاني في أن الملوك الرسوليين كانوا علماء وأدباء بل ومؤلفين في التاريخ والأنساب والطب والمساحة ولديهم في ذلك مؤلفات كثيرة ومشهورة .

يتبع في الحلقة القادمة ...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ أنظر الدولة الرسولية في اليمن ـ تأليف القاضي اسماعيل الأكوع ـ دار جامعة عدن للطباعة والنشر .

2 ـ أنظر : خلاصة محاضرة للدكتور محمد علي العروسي في المركز اليمني للدراسات التاريخية "منارات" بعنوان " الدولة الرسولية والعلماء الملوك في اليمن " وقد لخصتها " أخبار اليوم " على هذا الرابط :  https://akhbaralyom-ye.net/articles.php?id=56156

3 ـ أنظر للتوسع بحث الدكتور عبد الرحمن الشجاع بعنوان " الاتجاهات الثقافية في عصر الدولة الرسولية " بحث مقدم إلى مؤتمر " تعز على مر العصر "المنعقد في جامعة تعز من 25 ـ إلى 27 مايو 2009م . 

4 ـ أنظر للتوسع بحث الدكتور بشير زندال بعنوان " نساء الدولة الرسولية و تاريخ من بناء المدارس في اليمن " والمنشور في موقع المدنية على هذا الرابط " https://almadaniyamag.com/ar/2019/09/30/women-in-the-rasulid-state/

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد