من يتابع المشهد السياسي اليمني منذ ما قبل لحظة السقوط الكبير للبلاد في يد مليشيات الحوثي المدعومة إيرانيًا، في 21 سبتمبر 2014 وحتى هذه اللحظة، سيجد جليًا أن دور النخبة اليمنية “المثقفة” في هذا السقوط كان عاملًا رئيسيًا وحاسمًا وبارزًا وملفتًا في الوقت نفسه، في واحدة من أغرب ظواهر السياسة اليمنية . يتجلى هذا السقوط النخبوي اليوم، في استمرار هذا الدور المعطوب، لهذه النخب في تبرير واقع ما بعد السقوط بنفس مبررات ما قبل السقوط، تلك المبررات التي يسوقونها لتبرير هذا الواقع الكارثي، في ظل سقوط كل ما كان يُعد إنجازًا تنويريًا وطنيًا للنخبة اليمنية المثقفة على مدى أزيد من نصف قرن مضى من نضالات الحركة الوطنية اليمنية . فالجمهورية هي ربما أهم إنجاز للنخبة اليمنية على الإطلاق منذ بدايات بواكير النضال الوطني وحتى اللحظة، هذه الجمهورية التي سقطت سقوطا مدويًا غداة سقوط عاصمة اليمنيين التاريخية صنعاء، بيد مليشيات الحوثي، في ظل صمت كبير لهذه النخب التي تماهت مع هذا السقوط، وربما اعتبرت أن سقوط صنعاء كان خطوة جيدة في سبيل تصفية خصوماتها السياسية والأيديولوجية في ما بينها، مفرطة بالجمهورية كأهم إنجاز وطني في يمن ما بعد الاستقلال والثورة .
الجمهورية، بالنسبة لليمنيين، تصل في قداستها وأهميتها، لنفس الدور الذي لعبه الإسلام تمامًا بين العرب ككل، وهو تحرير الإنسان من العبودية والهمجية، وإطلاق كرامة الإنسان وحريته، وهو الدور نفسه الذي لعبته الجمهورية في اليمن
فما قامت به هذه النخب، ربما هو أكثر بشاعة مما قامت به المليشيات الحوثية ذاتها، لاعتبارات عدة، يأتي في مقدمتها كيف أسهمت هذه النخب في دفن وطي تاريخ طويل للنضال الوطني، وكيف تنكرت هذه النخب لنضالات اليمنيين الطويلة في سبيل إنجاز وإنجاح جمهورية اليمنيين، وتثبيتها كواقع وكمنجز وطني لا يرقى له أي إنجاز آخر . فالجمهورية، بالنسبة لليمنيين، تصل في قداستها وأهميتها، لنفس الدور الذي لعبه الإسلام تمامًا بين العرب ككل، وهو تحرير الإنسان من العبودية والهمجية، وإطلاق كرامة الإنسان وحريته، وهو الدور نفسه الذي لعبته الجمهورية في اليمن التي كانت مشاعًا للانحطاط وللتخلف المذهبي الإمامي شمالًا، ممثلًا بالزيدية، أو الانقسام المناطقي القروي الذي كان عليه اليمن جنوبًا . الأغرب في هذا الأمر كله، هو أن هذه النخبة المثقفة لاتزال تعيش نفس الدور، وبنفس التفكير والأدوات، وهي التي أسهمت بشكل أو بآخر بسقوط جمهورية اليمنيين، وشهدت عودة الإمامة الهاشمية الزيدية مجددًا، وعودة شبح الانفصالات جنوبًا، وكانت شاهدة على ما وصل إليه حال اليمنيين من ضياع وخراب وفوضى وانقسام، أسهمت هذه النخبة في النصيب الأكبر من كل هذا الواقع البئيس، ولا تزل بنفس العقليات المريضة الموغلة في حقدها وحالة الانفصام الذي تعيشه هذه النخب . فبعض هذه النخب، التي تماهت مع مشروع الحوثي، وإن تبرمت اليوم منه، لكن بعضها صورت للناس أن الحوثي جاء فقط لمهمة ضرب خصومه وخصومها السياسيين، ممثلًا بالإصلاح، هي اليوم تقف نفس الموقف، وأقذر منه في ما يتعلق أيضًا باستمرار نظرتها لطبيعة الصراع في اليمن، وأن هذا الصراع هو صراع قوى لا علاقة لها بمصير اليمنيين الوجودي ونضالاتهم الوطنية، ومكتسبات هذا النضال الكبير من الجمهورية والوحدة والديمقراطية .
النخب، التي تماهت مع مشروع الحوثي، وإن تبرمت اليوم منه، لكن بعضها صورت للناس أن الحوثي جاء فقط لمهمة ضرب خصومه وخصومها السياسيين، ممثلًا بالإصلاح، هي اليوم تقف نفس الموقف، وأقذر منه في ما يتعلق أيضًا باستمرار نظرتها لطبيعة الصراع في اليمن
فترى هذه النخب اليوم تتماهى مع كل المشاريع الصغيرة والتدميرية لمكتسبات الحركة الوطنية اليمنية، فتجدها تبرر ما تقوم به الإمارات على سبيل المثال، ودعمها للمليشيات الانفصالية، وسيطرتها على جزر اليمن وموانئها، وتعطيل المشاريع السيادية التي يقوم عليها الاقتصاد اليمني كتصدير النفط والغاز مثلًا، أو حركة الطيران والمطارات والموانئ والمعابر . والأغرب أن مثل هذه النخب، ترى كل ما يجري من تدمير للهوية الوطنية ومكتسبات النضال الوطني، على أنه لا يعدو كونه ضربًا لخصومها السياسيين وتصفية حسابات سياسية، فيما أن الهدف، في حقيقة الأمر، هو ضرب اليمن الكبير وتفكيكه وإضعاف كيانيته الوطنية وسيادته واستقراره السياسي . إن حالة الغباء السياسي والتبلد الذي تتعاطى به هذه النخب تجاه المشهد السياسي اليمني العام، وتغرق فيه هذه النخب، لم يعد مجرد غباء سياسي، أو سوء إدارة وتقدير للمشهد، وإنما هو خيانة وطنية، وإسهام في تدمير اليمن وضرب كل ثوابت هوية الوطنية من الجمهورية والوحدة والديمقراطية . حينما كان يقول لينيين إن المثقفين أقدر الناس على الخيانة، لم يكن يتنبأ، وإنما كان يقرر حقيقة، كما نراها اليوم وتتجلى لنا في المشهد اليمني وما يدور فيه، من عبث نخبوي يعبر ليس عن أزمة ثقافية نخبوية، بقدر ما يعبر عن أزمة ضمير وقيم وأزمة منطق يفضح كل هذا التناقض المخزي لهذه النخب، التي توزعت على كل المستثمرين سياسيًا في الأزمة اليمنية، وتحولت للأسف هذه النخب لأشبه بجسور عبور لمشاريع ما قبل الدولة الوطنية، ليخرج بعضهم في تبرير كل ما يجري باعتباره نتاج سياسة فصيل سياسي يمني كبير في مقدمة المعركة اليوم، محاولًا إيقاف ما يمكن إيقافه من حالة التداعي الوطني اليمني الشامل وعلى كل المستويات .
ما تقوم به هذه النخب يتعارض مع أبسط قواعد المنطق السياسي البسيط والمجرد، الذي يقتضي أن تكون هذه النخب في مقدمة صفوف العمل الوطني، معليه قيم العمل الوطني المشترك، محاولةً خلق جسور مشتركة لهذه النضالات، متجاوزةً أزماتها الأيديولوجية وحساباتها السياسية الخاصة
إن ما تعيشه اليمن اليوم من حروب وتداعيات كارثية على كل المستويات، تتحمل هذه النخب اليوم النصيب الأكبر من هذه الكوارث، باعتبارها أسهمت صمتًا وتنظيرًا في وصول الوضع اليمني العام لما وصل إليه، لمواقفها التي جُيرت لصالح المليشيات ومشروعها شمالًا وجنوبًا. هذه النخب التي روجت لمدنية جماعة الحوثي، وسوقتها كجماعة ثورية صاعدة ستسهم في تثبيت الدولة اليمنية، هي نفسها النخبة التي تنظر اليوم لمليشيات المجلس الانتقالي المدعومة إماراتيًا، وكل المليشيات الخارجة عن مؤسسات الدولة ورحمها، بأنها في وضع طبيعي، وليست بوضع شاذ لا يمكن أن يجتمع مع فكرة وجود دولة ناظمة وحاكمة للجميع. هذا السقوط النخبوي، ربما لم يكن وليد تشوهات الأفكار التي لدى هذه النخب، بقدر ما هو وليد حالة الانتهازية السياسية وعُقد الأيديولوجيات المأزومة والحاكمة لكثير من تصورات هذه النخب . ما تقوم به هذه النخب يتعارض مع أبسط قواعد المنطق السياسي البسيط والمجرد، الذي يقتضي أن تكون هذه النخب في مقدمة صفوف العمل الوطني، معليه قيم العمل الوطني المشترك، محاولةً خلق جسور مشتركة لهذه النضالات، متجاوزةً أزماتها الأيديولوجية وحساباتها السياسية الخاصة والضيقة. فهذه النخب يفترض أنها تشكل قائدة المعركة الثقافية الوطنية، مما يحتم عليها ألا تقع في مزالق الاستقطابات غير الوطنية التي تعبث اليوم في المشهد السياسي اليمني، وتعمل على إطالة أمد هذه الأزمة والحرب . وما لم تعِ هذه النخب أن الصراع في اليمن اليوم ليس صراع قوى سياسية يمنية متصارعة، وإنما هو صراع وجود وبقاء للحفاظ على هوية اليمن الوطنية وكينونته السياسية من الاندثار والتلاشي، بإسقاط جمهوريته ووحدته وديمقراطيته، فإن هذه النخب ستكون في الوقت ذاته تُقدم على أكبر عملية خيانية في تاريخ اليمن، باعتبارها جسور عبور لكل مشاريع ما قبل الدولة الوطنية اليمنية .