كلّما ضعفت السلطة المركزية في اليمن انقضت الأطراف على المركز، وبدأت القوى الانتهازية في المناطق المختلفة داخل البلد بالاستقلال، أو الانفصال عن الدولة، ولو على حصن جبلي مهما كان حجمه، ثم بعد ذلك تعود البلد إلى الصراع مجدداً في سبيل التوحّد .
منذ ألفي عام، والبلد يكرر المأساة، ولم يستفد من تجاربه، ولم يتعظ الشعب من المحن التي نزلت به. شعب استهلك حيويته في الصراعات، وللأسف فإن القوى الانتهازية ظلت المستفيدة من تضحياته .
لقد ظلت أنظمة العبث - وما زالت - من أجل البقاء في السلطة داخل اليمن، واستمرارها في السيطرة على الحُكم، باتباع استراتيجية إنهاك الشعب، من خلال ضرب الثقة فيما بين قواه الحيّة، وزرع الشك والارتياب بين صفوفها، والتحالف مع طرف ضد طرف آخر، ثم فك التحالف لصالح بناء تحالف جديد، لضرب مكوّنات التحالف السابق، وهكذا دواليك .
ولذلك فإن غالبية - إن لم تكن كل - التحالفات، التي تنسجها القوى الطامحة، أو الموجودة على السلطة، في بلادنا منذ عقود عديدة، بل قرون متطاولة، هي تحالفات ثأرية وانتقامية، استهلكت حيوية المجتمع، واستنزفت إمكانيات البلد، ولم تكن تحالفات في سبيل البناء، والتعمير، حتى أصبحت هذه الاستراتيجية هي السّمة الحاكمة لطبيعة السلطة في اليمن، وللأسف فقد ظل المجتمع ينزلق إلى متاهة هذه التحالفات بلا حذر .
ومن أجل أن تحقق أطراف عديدة في الداخل مبتغاها في الحصول على السلطة، فقد استغلت الكلمة عبر الشعراء، والخطباء ومساجلاتهم في السابق، لتجييش المجتمع، وتضليله، وتنميط كل طرف للطرف الآخر في قوالب جامدة، وصور سلبية ثابتة، وفق ما يخدم نزعاتهم السلطوية، الطامعة في الحكم، وعادت لتستثمر اليوم في أصوات كثيرة، وفي عدد لا يُحصى من المنابر الإعلامية، يفوق تأثيرها وانتشارها ما كان عليه في السابق، غير مُدركة عواقب ذلك، وأخطاره على السلم المجتمعي مستقبلاً، وصعوبة إطفاء حرائق الانقسامات، أو حصرها في مكان لا تتجاوزه .
إن الصراعات السياسية المستمرة في البلد حول السلطة والثروة، لعصور مديدة، وحقب طويلة في اليمن، وما رافق ذلك من تعبئة للمجتمع من أجل الحروب، قادت إلى ضرب الثقة بين القوى اليمنية. وقد ساهمت أعمال ردم منشآت الري، وتعطيل الطرقات، وقلع الأشجار، وحرق المزارع، وهدم البيوت والقرى، ومصادرة الأموال العامة، والاستيلاء على الممتلكات الخاصة من قبل حكام الجَور واتباعهم، في تسميم روح العمل الجماعي في بناء وتشييد المنشآت العامة التي تخدم المجتمع، كما خلقت "بؤرة للانتهازية في أعماق الشخصية اليمنية، ما زالت مع الأيام تتوسع، وآثارها مع السنيين تتمدد"، ففي المنعطفات الكبيرة، التي تمر بالبلد، نجد عدداً من القوى تحاول استغلال الأحداث لتحقيق مكاسب خاصة لا تتعدى نطاق: الأسرة، أو القبيلة، والمنطقة، أو الجماعة، والمذهب ....الخ، وكل ذلك على حساب المصلحة العامة .
رغم المواجع والمآسي، التي عاشها شعبنا اليمني في عهد الإمامة والاستعمار، إلا أن رجال الحركة الوطنية لم يحاول أي منهم مواجهة النظام الإمامي من منطلق مناطقي، أو مذهبي، أو طائفي، حرصاً منهم على لُحمة الوجدان الوطني، وخوفاً على النسيج المجتمعي من التمزّق، لأن ذلك يمد الإمامة بأسباب البقاء، وإنما سعوا إلى مواجهة الدعوات الضيّقة ومكافحتها، عبر الكتابات الفكرية والتاريخية، والمواضيع التي تعزز من تماسك المجتمع، والداعية إلى التحرر والمساواة .
كان الوطنيون والمخلصون في اليمن (شماله وجنوبه)، قبل. قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر المباركتين، يواجهون دُعاة شرذمة الهوية اليمنية الجامعة إلى تمرير الأهداف الاستعمارية، التي تسعى لاختراع هوية مزيّفة لهذا الجزء من الوطن أو ذاك، وقد كان دُعاة "الجنوب العربي" حاضرين منذ ما قبل الثورة، والاستقلال بمشروعهم الذي يستهدف سلخ المناطق في جنوب الوطن عن اليمن، وإلباسها هوية من صُنع المستعمر .
خلال تلك الفترة، تصدّى كُتاب ومؤرخو اليمن في عدن، وحضرموت، وغيرها لتلك المقُولات المسمومة، ومنهم على سبيل المثال: مؤرخ اليمن وشاعرها الحضرمي، سعيد عوض باوزير، الذي فنّد دعاوى التيارات والأحزاب الساعية إلى تزييف الوعي حول وحدة المجتمع اليمني، ومنها مقال كتبه، في مايو 1963م، في صحيفة " الطليعة"، التي كانت تُصدر في المكلا، جاء فيه :
" بعض الأحزاب السياسية في الجنوب تتصوّر أن في الاعتراف بيمنية الجنوب خطرٌ على أهدافها ومخططاتها، فراحت تُعلن، بدون خجل ولا حياء، أن عدن وبقية إمارات الجنوب ليست يمنية، ولا يصحّ أن يُطلق عليها اسم الجنوب اليمني، متحدّية بذلك وقائع التاريخ، وحقائق الجغرافيا، وظواهر الطبيعة، والمعالم البارزة لوحدة المجتمع اليمني شماله وجنوبه" [صالح باصرة، دراسات في تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر] .
خلاصة القول :
إن الخطوة الأولى لتغيير واقعنا الكارثي في البلد، تتمثل بدفع المجتمع في الصراع القائم على بناء الدولة اليمنية، أن يفكّروا كيمنيين، وليس أعضاء في مجموعات ذات هويّات، أو مناطق، أو طوائف، أو أحزاب مُنفصلة، وذات حسّ مستقل بالسيادة، بل علينا أن نعزز الشعور بهويتنا المشتركة، فما يجري في عدن يؤثّر على بقية اليمن، وما يحدث في صنعاء ينعكس على غيرها من مناطق البلاد !
نقلا عن موقع قناة بلقيس
عناوين فرعية:-
1- منذ ألفي عام، واليمن يكرر المأساة، ولم يستفد من تجاربه، ولم يتعظ الشعب من المحن التي نزلت به.
2- ظلت أنظمة العبث - وما زالت - من أجل البقاء في السلطة داخل اليمن، واستمرارها في السيطرة على الحُكم، باتباع استراتيجية إنهاك الشعب، من خلال ضرب الثقة فيما بين قواه الحيّة، وزرع الشك والارتياب بين صفوفها، والتحالف مع طرف ضد طرف آخر، ثم فك التحالف لصالح بناء تحالف جديد، لضرب مكوّنات التحالف السابق، وهكذا دواليك .
3- غالبية - إن لم تكن كل - التحالفات، التي تنسجها القوى الطامحة، أو الموجودة على السلطة، في بلادنا منذ عقود عديدة، بل قرون متطاولة، هي تحالفات ثأرية وانتقامية، استهلكت حيوية المجتمع، واستنزفت إمكانيات البلد، ولم تكن تحالفات في سبيل البناء، والتعمير، حتى أصبحت هذه الاستراتيجية هي السّمة الحاكمة لطبيعة السلطة في اليمن، وللأسف فقد ظل المجتمع ينزلق إلى متاهة هذه التحالفات بلا حذر .
4- في المنعطفات الكبيرة، التي تمر بالبلد، نجد عدداً من القوى تحاول استغلال الأحداث لتحقيق مكاسب خاصة لا تتعدى نطاق: الأسرة، أو القبيلة، والمنطقة، أو الجماعة، والمذهب ....الخ، وكل ذلك على حساب المصلحة العامة .
5- رغم المواجع والمآسي، التي عاشها شعبنا اليمني في عهد الإمامة والاستعمار، إلا أن رجال الحركة الوطنية لم يحاول أي منهم مواجهة النظام الإمامي من منطلق مناطقي، أو مذهبي، أو طائفي.
6- كان الوطنيون والمخلصون في اليمن (شماله وجنوبه)، قبل قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر المباركتين، يواجهون دُعاة شرذمة الهوية اليمنية الجامعة إلى تمرير الأهداف الاستعمارية، التي تسعى لاختراع هوية مزيّفة لهذا الجزء من الوطن أو ذاك.
7- بعض الأحزاب السياسية في الجنوب تتصوّر أن في الاعتراف بيمنية الجنوب خطرٌ على أهدافها ومخططاتها.