لا أنكر أنى في طفولتي حضرت مرات عديدة احتفال مولد النبي الذي كان يقام في مسجد حينا بين صلاتي المغرب والعشاء.. نعم اعترف بهذا لقد كنت حريصا على الحضور بتفاني وشغف، لم أكن في ذلك الوقت أعي معني مولد الرسول، ولم تكن تجذبني تلك الطقوس الإنشادية ولا أهتم بذلك الكم المحشور تباعا بالهذيان من المواعظ السردية وقد حيكت بإتقان خبير بصير.. عليم بما يدغدغ عواطف البسطاء قبل تهيئتها لبذر ذلك الكم الهائل من الخرافات التي تضفي قداسة لآل النبي، متخللة نشيد الصلوات الخمس والمنتقاة ايضا بلحن روحاني يلامس حشاشة القلوب المتعطشة لأي شيء يحرك مشاعرها بعد ملئها بذلك الكم المهول من الخرافات، وبعد حرمانها من الوعي بنقائض تلك الخرافات المدعاة، ومن أي شيء ثقافي أو فني ومسرحي وغنائي، رغم توفر مدارس التعليم إلا أن مناهجها مع الأسف كانت منتقاة إما بواسطة غير مدرك لخطر الكهنوت الإمامي أو بعناية متطرف.. قد يقول قائل ما الذي كان يعجبكم في هذه المناسبة...؟! نعم لقد كانت تعجبنا، بل ونتسابق على حضورها.. كنت اذهب كباقي أقراني طمعاً في الشكليت والحلوى التي كان « سنيدار « قيم المسجد يوزعها وكان لها طعم فريد.. أي والله الشكولاتة هي من كانت تجذب الأطفال لا سواها ولا غير.. وربما اختفت الحلوى اليوم عن افواه الصغار فالكهنة لم يعودوا بحاجة لنفاق تلك الأيام او يدلسوا بإخفاء خرافة أفضليتهم كما كانوا يتحاشوا القابهم الحقيقية، وفي الحقيقة هذه كانت إحدى أدوات مكرهم وأساليبهم الخداعية عندما يجروا أبناء القبائل إلى أوكار فخاخهم اللعينة كلا بما يتناسب مع وعيه وإدراكه، كانت احتفالية ممتعة لنا كصغار كنا نشعر بالزهو كلما أقترب حامل المبخرة من أنوفنا وعندما ترش علينا العطور.. كنا نُصغي لتراتيل والحان لم نكن نسمعها إلا في تلك المناسبة أو ما شابهها قليلا في مآتم تأبين الموتى.. كنا نهرول الى المسجد ونحن بكامل حريتنا وبصافي الوان بشرتنا التي خلقنا الله بها دون تكلف أو مبالغة في تقديس شخص أو حمل برواز كاهن، ولم يكونوا هم ايضا يذكروا حسين أو زيد. أو أي إمام ومذهب يوحي بنواياهم الماكرة كاستعداد متربص لعودة الإمامة.. فيما سبق لا مجال للسخرية الا ربما من مبالغتنا في الأدب خوفا من « مخريص « عصا القيم وخوفا من ان يحرمنا الحلوى التي لم يكن اقتناء الكثير منها صعبا علينا.. لكنها من يد ذلك الفقيه وبحضور الأقران والأضواء والروائح العطرية كانت اللذ خصوصا عن تذوقها أثناء مغادرة الصفوف بدون التراص مع الجمع لأداء صلاة العشاء، هذا إذا لم نحول المسجد إلى أشبه بباحة سوق وقد سجدوا ونفر قبل انتهاء المصلين بالسلام.. خوفا من الضرب ايضا لا أدبا ولا وقار.. يا لها من حياة بائسة.. والسخرية هنا لا تكمن في حال أطفال البسطاء والمنكوبين المغلوبين على أمرهم اليوم في صنعاء كونهم حديثي وعي مفخخ بالخرافات منذ خمس سنوات ربما لم يعرفوا غيرها، لكنها سخرية من الحال الذي وصل اليه عناترة وخيلاء الأمس من مشائخ ومسؤولين أو جامعيين متعلمين وحداثيين وأكاديميين وهم يساقوا الى ميدان السبعين قطعانا ذاعنة وقد تغيرت سياراتهم. وجلودهم بما يشبه ألوان البطيخ أو البلس الشوكي إذا زادت نسبة اللون الأخضر الطحلبي؛ وهم يفترشون الإسفلت الناشف بين لسعات الشمس وضربات الريح بضراجم مملوءة بقات يتناثر مع كل صيحة تصدر منهم، يرفعون مقابضهم الى السماء ويصرخون بين لعن بجملة وتمجيد بجملة أخرى ولو أنهم لزموا بيوتهم مثل ما يفعل الكثير من الأحرار في مناطق سيطرة المليشيات لكان أسلم لهم وللأجيال الناشئة من التشبه والاقتداء بهم.. كان باستطاعتهم اتخاذ عيشة أخرى لو ارادوا.. بدل الخنوع والمداراة لمن لا يقدر لكل ذي قدر قدره ولا يعترف بالتعايش إلا مع من أعلن الخضوع المطلق.. شكر وتقدير.. تاريخيا لابد من ظهور عاهات ترضى لنفسها ان تكون سخرة يمتطي عليها أحفاد الكهنة، وهم من يسهلوا لهم تمييع الأجيال من الوعي السابق لجائحتهم الضلالية، لكنهم مع ذلك لن يكونوا حجة على الشرفاء ممن لزموا الصمت المؤقت أو التنويريين المتواجدين اليوم خصوصا في صنعاء والمدن الرئيسية وباقي المناطق مثل ما كانوا متواجدين في العصور السابقة لعصرنا هذا، وقد حافظوا على الهوية الجمهورية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.. هم رجال بحق لم يجبنوا أو ينطمس وعيهم الذي اكتسبوه خلال حكم الجمهورية إرضاء لكاهن أو تجنبا لشره مهما خُذلوا وكل واحد منهم يمثل سورا منيعا من أسوار الهوية اليمنية من الضياع.. لن ننسى هذه المرحلة المريرة بجميلها وقبيحها والزمن ليس أكثر من فارق دوران السنين..
يحيى حمران
اعتراف.. وسخرية.. وتقدير.. 1001