لم يعد اليمني يتذكر عدد المرات التي مر فيها الشهر الكريم خلال سنوات الحرب، أو نصف الحرب التي تستنزفنا؛ فأنصاف الحروب هي الأقسى في إهدار الروح، والوطن!.. لم يفقد المواطن قدرته على العد؛ لكنه أنشغل بروزنامة الراتب التائهة، ومتاهة الجبهات المفتوحة التي تجاوزت السنوات المتوقعة لها؛ وتنبه، متأخرا، إلى أن استمرار الحرب لا يضايق أصحاب القرار، ولا يصيبهم بضرر- مباشر على الأقل- كالضرر الذي يصيب المواطن البسيط وهو يراقب اقتراب الشهر الكريم بقلق: "لقد كُنتَ هنا قبل أشهر قليلة.. لم العجلة؟!".. "هل يعقل أن تمقت رمضان؟!"؛ "كيف يصيبك الضيق من قدوم شهر البركة؛ الخير؛ الرحمة والغفران؟!"، إلى آخر العبارات التقليدية التي يقولها البعض، ممتعضا من اضطراب اليمني أمام قدوم الشهر؛ متجاهلاً أن لفظ رمضان مشتق من "الرّمض"، أي شدّة الحرّ والوقع الشديد لحرارة الشمس. كما أن الصيام فرض على المسلم كعبادة، ومهما بلغت حلاوة أداء العبادات في النفس؛ إلا أن ذلك لا يلغي عنائها، الذي وضع لأجله مبدأ الثواب والعقاب.. وإن لم يكن الشهر، وصيامه، شاقٌ على البعض، سيكون كذلك على اليمني، "الشاقي"، الذي لو قُدر له أن يكتب حقيقة معاناته لأصيبت الكثير من الألسن بالخرس.. مازالت ذاكرة اليمني تحمل عبق شهور صوم ما قبل الحرب: ازدحام الشوارع قبل ساعات الإفطار؛ اجتماع أفراد العائلة الحميمي؛ السباق المحموم بين الصغار على التقاط الأذان وسجادات الصلاة؛ وأدعية التراويح التي تملأ مساءات الشهر دوماً بالألفة والحميمية.. لكن ذاكرة الحرب وقفت بين المواطن وذكرياته القديمة كسد مرير. فلم يعد ازدحام الشوارع ينبئ عن الاستعجال المتلهف لمدفع الإفطار، بقدر ما ينذر عن طوابير لا نهاية لها أمام محطات الغاز والبنزين، وخلافها من السلع التي يبدو أنها تهوى لعب "الغميضة" مع اليمني، احتفاء بقدوم الشهر.. ليس من المستبعد أن تكون فوضى الشوارع والطرقات، ناتجة عن "فاعل خير" قرر توزيع أكياس القمح والصدقات علناً، ليزداد أجره وثوابه عند الله، وقد احتذى بالمنظمات الإنسانية التي ترتفع وتيرة نشاطها أيام الشهر الكريم، وكأن المواطن لا يعاني الجوع بقية العام!!.. لم تعد عادة تبادل الزيارات كما كانت في السابق، حتى على مستوى تجمع العائلة الواحدة بفروعها، بعد أن أصبحت العادات الاجتماعية لرمضان مكلفة مادياً، ومعنوياً أيضاً، لرب العائلة وهو يتهرب من واجباته بخجل وانكسار... خرست ميكرفونات صلاة التراويح، وقد أمسى صوتها من المحرمات وفضّل البعض أدائها في منازلهم؛ لأن الذهاب إلى المساجد أصبح محفوفا بالتردد، مع محاولات الخطباء الجدد التأثير والتشكيك في عقيدة لا توافق ما يرونه..!! هل انتهت مشقة الشهر؟!.. ليس بعد.. لا يكاد اليمني، الذي أنهكه التعب، يجمع ما يستلزم رمضان ويرضيه، حتى يقف متوسلاً العيد إرجاء فواتيره قليلا، أو إلغاء بعض منها !!.. أن تكون مواطنا بسيطا في رمضان؛ يعني أن تقف عاجزا بين محاولة عدم إضاعة ثواب الشهر، وبين كونك معيل لأسرتك، تسابق مأزق الوقت للبحث عن روحانيات، أنت في أمس الحاجة اليها، متجاهلا عجزك أمام واجباتك المستحقة،... ويفترض بك، فوق كل ذلك، أن تبقى مبتسماً للسواك الذي وضعته على فمك، دون أن تدري أيكما يمضغ الآخر؟!.
نور ناجي
وعاد شهر رمضان.. 820