;
وائل جميل
وائل جميل

وائل.. ماذا تفعل في مِصر؟! 705

2019-03-10 08:14:18

بهذا السؤال استقبلني أحد وزراء الشرعية، باستغراب، بإرتباك.. وهو يصافحني على الطاولة في إحدى بارات القاهرة.. - جئت لأعرفكم جميعاً! واحداً تلو الآخر.. كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل والكثير من توافد الزوار.. الكثير من القناني الفارغة.. الكثير من الشخصيات التي تعرفونها انتم جيدا أيضاً.. - أهلا بك.. أهلا بك يقولها بتلعثم، وهو يفسح لي كرسيه، هاه تفضل.. استرح.. استرح أنت! - متى وصلت؟.. حمداً على سلامتك.. حمداً على سلامتك أنت! - حسناً ماذا تشرب؟.. ماذا تشرب أنت؟! - ما بك واقفاً هكذا؟.. إجلس.. دعنا نتكلم عن جديدك، عن مغامراتك.. لقد افتقدت إليك، كيف صنعاء؟ ماذا يفعل الحوثيون مع زملائنا الصحفيين؟ ما الذي تنوي القيام به؟ كم ستقعد هنا؟.. أين تسكن؟.. حدثني.. أسئلة واهية يقولها وهو يبحث عن النادل.. وهو يلتفت يميناً ويساراً: - هييي أريد لوائل كاساً من الويسكي.. - هييي أريده أن يثمل ويضحك هذه الليلة، ثم ينظر لي وهو يشدني إلى قربه.. - ما بك؟.. إجلس! كانت حالته تلك لافتة لنظر الجميع ومثيرة للاستغراب والتعجب.. العم ميلاد، رجل ستيني في العمر نقي كالضوء، ينهض من كرسيه قرب صندوق الحساب وبشواربه البيضاء وبملابس الصعيدية البسيطة تلك.. ليلقي نظرة استغرابية لما يقوله هذا الرجل لي.. كذلك من هم فوق طاولاتهم، يحتسون البيرة وينظرون باستغراب -أيضاً-.. العاشقون والفتيات أيضاً.. ينظرون باستغراب أيضاً.. السجائر المشتعلة تشعر بالاستغراب هي أيضاً.. الوزير لا يكف عن المبالغة، إنه يمطرني بالكثير من عبارات ومفردات المجاملات التي لا معنى لها.. دون أن يشعر بالآخرين من حوله، دون أن يشعر بمدى تلك النظرات الأكثر سخرية والمقللة من شأنه.. -يقول أحدهم، بصوت متعجوج وقد شرب كثيراً في الطاولة الخلفية: "هذا الرجل كيف له أن يصعد ويصبح مسؤولاً في بلدنا؟" مسؤولاً عنا.. عن أوجاعنا.. عن آلامنا.. عن ما نحمله.. عن ما نشعر به.. عما نحتاجه؟ كمشردين في هذه المدينة البعيدة. .في هذه القارة الأخرى.. كفارين من الجحيم.. من الحرب.. كمنهكين منها، كمسلوبين من حقنا.. من أملاكنا.. كمحرومين من أبنائنا.. من أصدقائنا.. من جغرافيتنا.. كخاسرين لم نعد نمتلك من الأشياء التي نضحي بها، فدية لنعيش أكثر، لنتنفس أكثر.. لنعانق بعضنا مجددا.. لنبتسم كالسابق.. كمفقودين ومظلومين وضعفاء وبؤساء في الخارج.. ابتسم فقط في وجه الوزير، وصديقي الوزير يبتسم في وجه القنينة.. - هييي ما بك.. لا تنظر لي بهذا الازدراء.. إجلس، بماذا أساعدك.. إنني صديقك، هل نسيتني؟ - نعم نسيتك.. ذكرني من أنت؟! - يييي يييي يقولها بملامح جدية.. لا تنكر الأيام التي قضيناها معا في الثورة.. الأفكار التي تقاسمناها معاً في الخيام.. الهتافات التي نشدناها معاً في المسيرات، جنباً إلى جنب.. وإلخ كان يهذي صديقي الوزير كسائر الانتهازيين الأوغاد الذين نعرفهم جميعنا.. واحداً تلو الآخر.. يثرثر بأشياء طافحة ودامية للقلب، للمشاعر.. للأحاسيس.. للذاكرة.. عن لحظات عنت لنا الكثير، عن ثورة أنجبته من جديد وجعلته صاحب قيمة ومكانة بعد أن كان لا شيء.. ليتخلّى عنها وعن كل ما اكتسبه طيلة سنوات عشناها معاً.. لينسلخ عن مبادئه.. ليتجرد منها بسهولة فائقة.. بقرار جمهوري، بمرتب زهيد يتقاضاه بالدولار.. وبحياة رفاهية وجميلة جداً، يجوب بها مدن العالم أجمع.. أقاطعه بنبرة حادة.. وبدون أن أهتم لما يثرثر به.. حسناً.. هل قرأت رسالتي التي بعثتها لك؟! تتغير ملامح وجهه فجأة ثم يشعل سيجارة.. كالشخصية المهمة المغرورة تلك التي نشاهدها في الأفلام التي تجسّد تصرفات الملوك، كعرابين المافيا.. كرجال العصابات في ولاية تيشيكاغو.. بذلك الدور الأكثر استفزازاً، الأكثر احتقاراً.. بمؤخرته اللعينة تلك.. وهو ينفذ دخانه إلى الأعلى.. قائلاً: - رسالتك!!.. آه آه أتذكر أني قرأتها.. نعم نعم، لكني انشغلت عن الرد.. تعلم بالانشغالات والالتزامات التي تترتب على المرء والاهتمام بها في ظل الأزمة السيئة التي تشهدها البلاد.. لكني سأحاول أن أجد لك منحة دراسية.. سأحاول يا صديقي! - حسناً.. وماذا عن العمل؟ - قلت لك سأحاول.. سأحاول.. تمالكتني روح شريرة في كسر القنينة والقيام بقتله، في محو كل شيء يربطني به، من ذكريات، ومواقف، ولقاءات، ومجالس، وخبز حلم مشترك.. لم أعد أرغب في تقبل المزيد، في التبرير، في الخضوع، في التوسل، في الترجي، في المحاولة مجدداً لأجل مستقبلي، بعد أن فررت بجلدي من صنعاء.. أو أن أضعني بموقف مخجل ومحرج للغاية، يفقدني ويسلبني كبريائي كإنسان.. كضحية.. على نفس الطاولة يقعد أوغاد.. هم أيضا لا يختلفون عنه بشيء.. يمجدون ويتبادلون القهقهات، ويتشاركون الأحاديث المهينة، والاستخفاف على حساب الأبرياء والضحايا والبلد ومسؤوليتهم الغير أخلاقية.. فهنا- وفي أربعة أشهر قضيتها في المعرفة والاكتشاف- تعلمت الكثير في هذه المدينة المكتظة بالسفلة.. حد أنني لم أعد أستطع تمييز الأنقياء أبداً.. البار مكتظ بالزوار، الجميع، يعرفونني ويستغربون مما يحدث معي، ولماذا أقف أنا أمام تلك الطاولة بالذات.. العم ميلاد ينهض مجدداً.. ليناديني.. ماذا تفعل عندك؟ أضع يدي على كتف صديقي الوزير، أطبطب عليه بحنية، بقصد الإشادة.. بقصد السخرية والاستهزاء أكثر.. "إنه وزير بلدي يا عم ميلاد" فيقهقه العم ميلاد بصوت عالٍ.. فيقهقه الحاضرون.. فيقهقه العشاق، فتقهقه الفتيات الجميلات.. فتقهقه القناني الفارغة أيضاً.. وأقهقه أنا.. معهم.. - يييي.. دعك منه.. يقولها العم ميلاد، لدينا زبائن جدد يجب الاهتمام بهم.. أنصرف إلى أخذ الطلبات.. أعود لفتح قناني البيرة لهم.. قرب طاولتهم تماماً.. صديقي الوزير يسألني ماذا تفعل؟! ما دخلك بذلك.. وسط استغراب شديد..

كما ترى.. إنني أعمل هنا.. هل تريد مشروباً آخر سيدي؟

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد