قلبها معذب من لوعة الفراق.. 30سنة وهي تعيش أوجاعها باحثة عن استقرار مفقود، خلفت أولاداً وبنات، تربي أولاده، وترعى بيته، وتحرث أرضه.. هي الأب وهي الأم وهي يعسوب الأسرة كلها.. هو ليس له نصيب من الحياة إلا الشقاء والضنك والاغتراب، يعمل بصمت واجتهاد لكي يوفر لقمة عيش كريمة له ولأسرته.. في عودته الأخيرة تعرّض لسؤال صعب، موجع ركلته ابنته الصغيرة من بين شفتيها لتسدده في الزاوية 90 من قلبه.. قالت له حنان أبي متى ستعود للسعودية وتتركني من جديد.. يجيب عليها بدموع محرقة خرجت من كبده.. لن أتركك أبداً.. قالت له أمها لا تزعّل نفسك، هم هكذا العيال خاصة حق هذه الأيام دلعهم وحنانهم كبير وهم صغار، لكن شوف الأولاد الكبار ولا عاد يلتفتوا إلا لما سيحصدونه من مدخرات أوجاعك.. لكن حنان بالفعل استطاعت أن تقلب البيت رأساً على عقب وجعلت من أبيها كومة من الحزن.. جعلته يفكر في عمره الذي يضيع بعيداً عنهم... حتى أنه قرّر عدم العودة مرة أخرى إلى الغربة، وأن يعمل له مشروعاً صغيراً داخل اليمن يكفيه من آلآم الفراق وعذابات الغربة، حتى أنه حاول تقطيع جواز سفره لولا تدخل زوجته التي أخذته من يده ووضعته في شنطة حديدية محكمة الإغلاق وقالت له عسى أن ينفعك يوماً ما.. وأضافت: بالنسبة لعمل مصدر رزق هنا فكرة جيدة، لكن انظر إلى الذين عملوا قبلك أكثرهم أفلسوا ورجعوا يبحثون عن قيمة فيزة تعيدهم إلى الغربة.. ومرت الأيام كالدقائق والأشهر كالساعات، ومدة التأشيرة تتناقص بسرعة، وهيثم يجري من مدينة لأخرى باحثاً عن محل للإيجار يفتح له مصدر رزق.. وطلعة ونزلة واستنزاف متواصل لأمواله في مصاريف وقات.. ولم يجد إلا محلات يتطلب منه دفع نقل قدم بمبالغ خيالية، وإيجاراتها جنونية.. وتمر الأيام ليجد نفسه أمام وضع غير طبيعي فلم يهنأ بالإجازة مع أطفاله ولم يعش لحظات السعادة التي كان يريدها.. وقبل 10أيام من موعد انتهاء تأشيرة العودة إلى عش غربته الكئيبة، قرر التراجع عن قراره السابق ليحدث نفسه بأن هذه العودة ستكون الأخيرة، حتى أحصل على مبلغ كافٍ لفتح محل يكون مصدر رزقي في بلادي أعيش فيها بعز وكرامة بين أهلي ومع أطفالي.. يا أم بشار.. ردت "أيوة".. قال لها خلاص قررت العودة للسعودية.. قالت له طيب يا عمري.. خير إن شاء الله، لكن كيف غيرت رأيك؟ وماهو السبب الذي جعلك تتراجع؟ ودخلت المطبخ وإذا بهواجس كثيرة تداهمها وعاد عقلها يشتغل شغل نسواني اختلطت فيه المكائد بالأوهام.. أيش اللي خلاه يتراجع عن قراره.. كيف؟ ولماذا؟! وبدأت تحدث نفسها.. قدني أشوفه له أكثر من شهر مش طبيعي، و طبعه تغير وقده يجلس فقط هو والتلفون حقه مشغول ووقته كله مع الانترنت ولم يعد يهتم بنا... وشاركت هواجسها هذه مع صديقاتها وأغلبهن وافقنها أن الرجال لا أمان لهم وأنه ممكن قد تعلق بحبل واحدة ضحكت عليه وتجرجره بعدها وأنت جالسة مقعية، مشغولة بالكنس والغسيل وعمل المطبخ أو سرحة ورجعة من البيت للأرض. رجع أبو بشار إلى البيت بعد المغرب، فدخل إلى المجلس ولم يجده جاهزا كما هو معتاد يومياً، ولم يجد ثلاجة القهوة القشر ولا الماء ولم يجد من يرحب بت، فتلفت يمنة ويسرة وصاح يا حنان أين أمك؟.. قالت له أمي نازل في الغرفة تعبانة.. خاف ونزل مسرعا.. سلامات يا أم بشار أيش فيك ؟ من ماذا تتوجعين؟ هل استدعي سيارة وأسعفك إلى المدينة..؟ قالت له ولا بيني شيء، خليني بحالي واطلع خزن قال لها والله ما اطلع لوحدي وسأجلس هنا بجانبك أخزن وإلا نطلع الأثنين نسمر بالمجلس.. قالت له اسمر أنت والتلفون حقك.. قال لها يا زوجتي يا أم عيالي، الأيام تمر بسرعة وموعد الإجازة يقترب من النهاية، خلينا نكمل الأيام المتبقية أنا وأنت.. قالت له اطلع وأني شالحقك ولحقته بالقهوة القشر... وجلسا مع بعض يتسامران يعتلفان القات، ومن كلمة لأخرى يتهامسان بينهما البين ومضت ساعتان من السمرة وإذا بتلفونه يرن فأجاب ان شاء الله بعد يومين مسافر وربنا يوفق ويسهل.. مع السلامة.. قالت لنفسها يعني قده يطمنها أنه شا يسافر والله ما سافرت وأني بنت أبي.. لتهديها وساوسها عند ذلك إلى قرار لم تعلن عنه..!! التفت هيثم ‘ليها...حبيبتي أخرجي لي الجواز لأستعد للسفر فلم يبق لي إلا 6 أيام .. قالت له تمام متى قررت قال بعد غد فقالت له الجواز موجود بالشنطة مش هارب.. قال لها نشتي نصوره بالتلفون لأرسل صورته بالواتس لصاحبي لكي يحجز لي بالباص.. قالت له صاحبك يقدر يحجز لك بدون جواز كما يفعل دائما والجواز خليه لما تخرج يوم السفر الصبح أما ذلحين والله إن جسمي يختضل وارجش من كلي ما اشتي اشوف صورته كلما أشوفه قلبي ينقبض ويتوجع من خوفي من يوم السفر.. قال لها كما تريدين. بكر صباح يوم الأحد يصافح أبناءه وبناته.. حنان تعلقت على رقبته بقوة وتبكي.. سالت دموعه بحرقة حتى استنزف كل دموعه ومواجعه... ذهب إليها وهي في الزاوية من غرفتها صافحها وهي تبكي وهو يبكي، هي تبكي نفسها وحظها العاثر الذي جمعها بهذا الخائن للعيش والملح ولحياة الكفاح المشتركة وقلبها يعتصر ألما وغيرتها متقدة ولا تأبه بكل ما يجرى حولها أو ما سيأتي بعده لانها قررت هدم المعبد على رؤوس الجميع.. وهو يبكي فراقها من قلبه لا يدري ما في داخلها من نيران مشتعلة، فقال لها استودعك الله أنت وأولادي وأهلي وبيتي وسألها أين الجواز؟ قالت له خذ المفاتيح وخذه من الشنطة الحديد التي في المخزن. فذهب على عجل يقلب وينعث الشنطة فلم يجد للجواز أي أثر.. صاح يا عيال يا حنان قولوا لأمكم تأتي لتبحث عن الجواز أنا لم أجده.. دخلت عليه وقالت للعيال أخرجوا... والتفتت اليه وقالت خذ هذا هو جوازك اعمل لك منه بخور واتبخر..!! فصعق الرجل حيث لم يجد إلا كيس علاقي من البلاستيك فتحه ليجد أوراقا صغيرة مفتتة مقطعة مبعثرة بشكل لم يعد فيها ما يدل على هويته ومعلوماته.. صاح من فعل هذا..؟ قالت له.. لا لي ولا لها... تحملتك وصبرت عليك عشت معك فقرك وغناك، مرضك وعافيتك أعطيتك كل سنين عمري بنيت لك بيتك ربيت لك أولادك، تقطعت يداي وتشوهت في أحوالك وأرضك وأحرقتني شموسها وبللتني أمطارها واليوم قدني ععععع... وقالت له ودموعها كالسيل يصاحبها النحيب، قدك تشته واحدة صغيرة من حق هذه الأيام يعني اخذتني لحم وتشته ترجم بي عظم والله ما سبرت لك... لا لي ولا لها.. الرجل لم يستوعب أو يفهم شيئا مما يحصل أمامه، ولا يدري عن أي موضوع تتحدث زوجته المقهورة من اللا شيء، المتوجعة بدون سبب. الوقت يمر بسرعة فدخل أبوها وقال له يا إبني تحرك أجري ربما ستجد حلاً في الطريق، بقي لك 4 أيام بإمكانك أن تستخرج جوازاً من مأرب خلال يومين وتذهب إلى المنفذ.. هذه قصة رفيق رحلتي في الباص المتجه من صنعاء إلى سيئون... مغترب لا يحمل هوية سوى (فتة) من الأوراق... جعل من رحلتنا نكد في نكد وكان سبباً في تأخيرنا في كل النقاط التي يتجاوز عددها العشرين من صنعاء إلى مأرب.. تركناه بعد نقطة الفلج في مأرب ذلك المساء.ليعيش مشكلته ومأساته لوحده بعد مرافقته 13ساعة حكى لي قصته ووجع غربته..
محمد شبيطة
لوعة الفراق ووجع الاغتراب!! 968