كثيرة هي الفوادح التي خلفتها الحرب من قبل ومن بعد، لاسيما أنها ابتلعت كل شيء جميل وحولته إلى ضياع وسلخت أهم شريان للمجتمع والمتمثل بسلك التعليم والمعلمين وبلغ تنكيلها بهذا الفصيل الحيوي حداً مريعاً كون العداء للتعليم متجذر في صلب هذا الخصم الأمي الآتي مما وراء العلم والعصر والثقافة فهو يمقت بشكل مزري كل ما يمت بصلة للتعليم وينبذ المنتمين له والمنتسبين إليه من قريب أو من بعيد وقد سعى جاهداً بكل السبل لتمزيق الجيل الذي يثابر ليتعلم دافعاً به لهجر المدارس والجامعات والمعاهد والالتحاق بركب المسيرة القرآنية المتوحشة وتحبيذ الجهل والفوضى وحمل السلاح مما جعل جيلاً بأكمله يتدافع للتضحية بنفسه في جبهات عدة بعد أن تشرب وهم الشهادة وغاص في مستنقع الحماقة فكان حطباً بلا ثمن لحرب لا ناقة له فيها ولا جمل. وقد تعمد عن قصد تعيين أحد دعاة السلالة/ يحيى بدر الدين الحوثي، وزيراً للتربية والتعليم في حكومة الانقلاب الحوثية، بما يملك من خبرات ومكائد للجمهورية والتعليم ليتفنن في طمس التعليم كهوية بطرق ممنهجة من صلب الوزارة بقرارات وآليات عدة تمكنه من تحقيق مآربه تحت مسمى الدولة وإحلال أوهام مشروعه في ثنايا المناهج وبين أروقتها وخلق نماذج مناهضة للمدارس تتمثل بمراكز تنشر ملازم المسيرة وتنفر من كسب المعارف المعتادة في نظام التعليم التابع للدولة وهناك أساليب كثر تنهش في جسد المجتمع ثقافياً وتعليمياً فبرزت تلك الصورة الهشة لمخرجات التعليم الفاشلة والتي تفتقر لأدنى حد من التأهيل لتمتد المأساة باتجاه الجامعات وتكتمل الصورة بجيل محبط وجاهل حتى لو كان يحمل شهادات. وللغوص في تفاصيل المأساة وجوه بشعة تنبئ عما لا يمكن تداركه بيسر وبالأخص أننا نتغاضى عن وضع حد لانتشار هذا الفيروس المشين الذي يفتك بلا رحمة بأهم شريحة في المجتمع ويقتادها صوب الجحيم، حيث يبدو الأمر في نظري بشكل مختلف يثير فيَّ الفزع والوحشة وأنا أطيل التفكير بمصير هذا المجتمع وهو يفقد خيرة شبابه ولا يأبه بهذه الإشكالية.. ومما يزيد ازدرائي حال من يفكر بوقف الحرب ولا يخطر بباله مصير التعليم في اليمن من طلاب ومعلمين ووعي متهالك وثقافة سلب ونهب متفشية كبديل للعلم والمعرفة وترسيخ هذا المبدأ باعتباره منطق اللحظة الراهنة الذي قربته زلفى من ذهنية الشباب وزادت الطين بلة بما سببه انقطاع رواتب المعلمين من فراغ وتهاوي وتعطيل متكامل للمسيرة التعليمية فغدت المدارس والجامعات خاوية على عروشها تشكو الهجر والفقدان، باحثة عمن يملأها نابذة تبديل دورها إلى ثكنات ومتارس وساحات تدريب للمجاهدين بعدما استعصت مقومات الصد والثبات في مواصلة التدريس رغم هذه الموانع التي كدستها سلالة الكهنوت والجهل في وجه التعليم وأهله.. ولتقريب القارئ من الموضوع أكثر: تذكر بعض التقارير أن ما يقارب من 40% من طلاب المدارس تركوا التعليم حيث بلغ الفارق مائة وعشرين ألف طالب من 2014 إلى 2018 بعد أن كان المتقدمين لنيل الشهادة الثانوية قبيل الانقلاب مائتين وثمانين ألف طالب، فما بالك بتاركين التعليم في مختلف الصفوف وبقية مستويات التعليم الدنيا والعليا، تربويون كثر نهشهم الجوع ومزقهم العوز فتفرقوا في كل البقاع بحثاً عن مصدر رزق يتكفل بقوت أسرهم وقد يأسوا من انبلاج صبح العتمة وانبعاث الضوء ولم تمنحهم تضحياتهم الكبيرة في التدريس حصانة أو احترام وأهمية لدى سلطات الانقلاب لا تحسب لهم مكانة ولا تخشى عليهم من الضياع وغياب الطلاب بل إنها تعاملت معهم باحتقار ونقص ولا مبالاة كما أنها تشعر بالزهو لما تحققه من نتائج ملموسة وهي ترى بأم عينيها الشلل التام للتعليم موفرة بذلك نقص المجاهدين وقد وجدت طلاب المدارس غنيمة فائضة تنهل منها متى ما تشاء وكلما شعرت بالحاجة هبت إلى المدارس للتعبئة والحشد والتصدير نحو جبهات الموت.. هل يدرك العالم ومنظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة واليونسكو أن التعليم في اليمن لم يعد أكثر من صرخات وتعبئة عامة وحشد مستبسل للموت ومعلمين يعيشون الفاقة والعبث يصرف لهم كل صباح قطعتين من الجبن المحشي وسط قرصين من الروتي وتراهم مجبرين على ذلك تحت مطية التهديد والترهيب ، أي استخفاف أكثر من هذا وأي سقوط أخلاقي وإنساني أشد من هذه المعاناة.
علي العزي
التعليم.. مأساة مؤجلة 797