مخزون بشري هائل من الفقراء والمخدوعين يساقون إلى المحارق كل يوم.. في كل مرة عندما يضيق الخناق على الحوثيين في تهامة يرسلون الشاصات فارغة ويستخدمون اسم الدولة ليجلبوا الناس بكل الطرق على متن هذه الأطقم، ثم يعودون بها محملة ويقذفون بالفتيان والرجال العاطلين عن العمل إلى المحارق المفتوحة على امتداد الساحل الغربي. انقطعت مصادر أرزاق الناس وبات الجميع عاطلين وفقراء معوزين لا يجد أحدهم قيمة كيس القمح، وبعد أن أوصلهم الحوثي إلى هذه اللحظة أحالهم وقوداً لمعاركه رغباً ورهباً. حسناً سأحكي لكم قصة داود ابن أخي الذي بلغني الليلة أنه قتل بغارة شنتها مقاتلات التحالف على عدد كبير من المقاتلين الذين حشدهم الحوثي إلى منطقة التحيتا جنوب الحديدة، والتي تبعد عن قريتنا في جبال بلاد الطعام غربي محافظة ريمة بمسافة تقطعها السيارة خلال ساعة واحدة. داود عمره حوالي (26 عاماً) هو آخر أبناء أخي الأكبر والمتبقي الوحيد مع أمه إلى جانب ثنتين من الإناث لا يزلن على قيد الحياة بعد أن مات الجميع بأمراض مختلفة، كان آخرهم رب الأسرة أخي عبده الجندي المتقاعد الذي توفي قبل حوالى خمسة أشهر متأثراً بمرضه وهو على مشارف الستين من عمره. كان داود الذي غادر مقاعد الدراسة مبكراً مجنداً في أحد الألوية التابعة لقوات الحرس الجمهوري في محافظة مأرب وعندما أوعز الرئيس السابق صالح لقادة الألوية التي تحتفظ بولائها له بالتسليم للحوثي كان داود من ضمن كثيرين التبس عليهم الأمر فاختاروا مغادرة المعسكرات وعادوا إلى بيوتهم، عاش داود وزوجته (هي بنت أختي أيضاً) في منزل عائلته وعندما طال عليه الأمد دون عمل ولا مصدر رزق جاءه السماسرة الذين يعملون لصالح جماعة الحوثيين وأخذوه إلى الجبهات، لا أدري بالضبط متى التحق بجبهتهم. الليلة فقط عندما وصلني خبر مقتله قيل لي بأنه كان في التحيتا مع الحوثيين، عاد آخرون من أبناء القرية ولم يعد داود، ومع ذلك فكنت كلما اتصل بأقاربي وأصدقائي ووجهاء البلاد أحذرهم من الزج بأبنائهم في الجبهات وكتبت تحذيرات على صفحتي أكثر من مرة لأني أعلم أنه فقط يسوقهم إلى المحارق ليشبع نزعته السادية في قتل أكبر عدد من الناس ليتأكد أنه فعلاً “سيد”. ليس فقط داود ابن أخي من قتل في محارق الحوثيين، بل قتل معه في نفس الغارة عبده ابن عمي أيضاً وهو رجل على مشارف الستين ساقته نفسه الأمارة بالسوء منذ وقت مبكر ليجد نفسه يحمل البندق في صفوف جماعة تعطي أتباعها القليل القليل من النقود والكثير من الزوامل والشعارات والبارود، فعبده كغيره من مواطني اليمن الأسفل لا يؤمن بولاية ولا يكترث بخرافة الإمام العلم ولا بأوهام الاصطفاء، وإنما مضى بعدهم من أجل الراتب والبندق. لا زيدية في بلادنا ولا حاضنة شعبية للحوثيين، وكلما هنالك أن الغالبية في قريتي هم من محبي الرئيس السابق صالح، وفي ذروة اندفاعه نحو الهاوية التي كانت تنتظره بعد المنعطف نادى أتباعه بصوت متحفز: “هبوا إلى الجبهات لمواجهة العدوان” فأغمض كثيرون أعينهم وهبوا لا يدرون إلى أين، في المرة التالية وقبل الغرغرة كان صالح يهز كتفه ومرفقه الأيمن الواهن ويناديهم بصوت مبحوح “أيها الشعب اليمني العظيم انتفضوا في وجه هذه العصابة المارقة” حينها كان قد فقد الاتصال بهم ولم يصلهم نداؤه بعد أن أصمَّت الزواملُ والشعارات الكاذبة أسماعهم وصاروا لا يسمعون إلا هتافات القتلة. آخرون من أبناء قريتي سبقوهم وآخرون لا شك سيلحقونهم لذات الدوافع والحيثيات، عقلاء البلاد ووجهاؤها خيمت عليهم حالة من الذل والصغار لا يستطيعون أن يقولوا (لا) في وجه مجموعة من الأوباش الذين يزجون بالناس إلى المحارق مقابل تحسين مستوى عبوديتهم. لا تزال القائمة مفتوحة والأحزان تتوالى فكلما طالت الحرب زادت مآسينا واستباحت عصابة المجرمين الحوثيين أرواح الناس بعد أن استباحت حرياتهم ومرتباتهم ومصادر عيشهم. لم أفتح هنا سرادق عزاء لأن حياتنا كلها صارت أحزانا ومشاعرنا أصيبت بحالة من التبلد ولم نعد قادرين حتى على الحزن، بل نعزي جميعاً الوطن الذي ما فتئ يرتدي ثوب الحداد منذ أطلت عليه هذه الفئة الباغية بوجهها القبيح، ونواسي نساءً وأطفالاً يفقدون آباءهم وإخوانهم وأعزاءهم ويشوي الحزن أكبادهم كل يوم، بعد أن استحال الوطن محرقة لا تكف عن التهام الرجال، فالمعركة منذ أن اتجهت غرباً باتت قريبة منا والحوثي يتعامل مع تلك المناطق الريفية الفقيرة والمقهورة كخزان ضخم مليء بالبشر والغلام المختبئ في الكهف على استعداد أن يقاتل حتى فناء آخر رجل منهم.
د.علي الفقيه
يساقون إلى المحارق كل يوم! 944