من منا لا يتمنى أن تحوي نفسه الساكنة بين جوانحه على أكبر قدر من هدوء البال وراحة القلب وطمأنينة النفس؟ وعلى النقيض أتساءل: هل منا من يهوى حياة الكدر والمنغصات أو يرضى لنفسه أن تحيا دوامة القلق النفسي وعدم الاستقرار؟ كثيرة هي أسباب التعب النفسي ومشاكل القلق التي يعاني منها الكثير، ولكل منها دون شك دوافعها ومسبباتها، وهذه هي طبيعة الحياة. وسواء كانت هذه المتاعب اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية على حد سواء، فكلها في نهاية المطاف تصب في وعاء النفس نتيجة واحدة : قلق... أرق.... توتر.... وعدم استقرار. والأسواء من هذا كله أن تظل المشكلة قائمة دون حل، وهذا هو مربط الفرس ومحور المقالة.. من هنا تلمست واقع الحياة حولي فوجدت أن أغلب المتاعب النفسية التي يعاني منها غالبية البشر نابعة في أغلب الأحيان من (الأمور المعلقة).... تلك الأمور التي لا يتمكن فيها المرء من الوصول إلى حل واضح وصريح. ولا يستطيع أن يقطع فيها رأياً أو يبت فيها حكماً ينهي به المشكلة من جذورها. العز ولا الجعجعة: ومن بحر الأمثال الشعبية وجدت ثقافة جدتي تحاكي بفطرتها البسيطة واقع الألم الذي تعيشه القلوب المتعبة، فقد كانت كلما صادفت أناساً ضاقت بهم ظروف الحياة الصعبة، أو سمعت تنهيدة ألم تنطلق من صميم قلب موجوع لا يجد لشدته انفراج، كانت تردد المثل القائل: ( العز ولا الجعجعة).. وكلنا يعرف أن كلمة العز في هذا المثل في ثقافتنا الشعبية تعني الموت، فالموت مرة واحدة من وجهة نظر جدتي خير من الحياة بألف موتة، وهذا ما تعنيه حياة الجعجعة، أو ربما كان لكلمة العز معنى آخر من وجهة نظر البعض يعني الحل الحاسم والمريح، أو الحل الجذري لاستئصال الألم من منبعه. وفي كل الأحوال فإن هذا المثل الشعبي على بساطته يضع قاعدة مهمة مفادها أن ألم انتزاع البلاء البلاء أهون بكثير من معاناة آلام البلاء نفسه، هذا إذا افتقد إلى الصبر والقناعة، فكلنا يدرك أن الصبر والقناعة وحدهما كالأسبرين يسكن الألم ولا يستأصله.. فهل أصابت جدتي في قولها هذا؟ أم أن البعض ممن عشقوا حياة الاستسلام يختلف معها في هذا القول؟ عموما يكفي جدتي أن الشعب المصري بأكمله يؤيد قولها هذا، ففي ثقافتهم الشعبية يقولون: (اقطع عرق وسيح دم)، ويقول اليمنيون: ( وجع ساعة ولا كل ساعة). ثقافة البيئة وسلبية التفكير: وعلى ضوء المثل الشعبي السابق، ومن منطلق متاعب الأمور المعلقة برز مثل شعبي آخر تردده بعض النساء في مجتمعنا، فقد كانت إحداهن إذا أرادت أن تدعو على أخرى دعوة تنفس فيها غيظها، كانت تدعو قائلة:(جعلك معلقة لا مرة زوج ولا مطلقة). فهي ترى في ذلك أن الحفاظ على الحياة الزوجية هو نوع من الاستقرار، وأن الطلاق كونه نهاية ولكنه يحمل بين طياته نوعا من الحرية.... أما التعليق ما بين هذا وذاك فهو العذاب بعينه ولكني أرى أن ثقافة البيئة قد أثرت سلبا على تفكير بعض النساء اللاتي فقدت حياتهن الزوجية معنى الاستقرار بجميع أشكاله، واخترن على ذلك حياة التعليق بنفس مرغمة، على أن ينظر إليهن المجتمع نظرة المطلقات!! فهل أصبحت نظرة المجتمع القاصرة أقوى من نظرة العقل الذي ميز الله تعالى به الإنسان عن سائر مخلوقاته على جميع المستويات؟ يرى أغلب العقلاء أن البت في الأمور حتى ولو إلى نهاية متعبة أو حزينة أو مؤلمة قليلا أفضل بكثير من تركها معلقة، كمشرط الطبيب يشق الجلد ويهتك اللحم، لكنه في النهاية يستأصل داء لو ظل على حاله لأنهك الروح وأهلك الجسد، ومن وجهة نظري أجزم أن الأمور المعلقة أسوء بكثير من النهايات المحرقة، ودواء مر خير من ألم مستمر. أقطع عرق وسيح دم: إحدى قريباتي تزوج زوجها بأخرى فقلبت حياته وحياتها إلى جحيم، وأقلقت راحة الأسرة معها، وهي دائمة الشكوى: " لن أعيش معه، سأطلب الطلاق، سأعود بيت أبي".. وبدوري قلت لها: " يا عزيزتي كلمة وعشر سواء، إما وقررت البقاء والصبر، أو اتركي البيت واطلبي الطلاق بدون وجع رأس.... واحدة من الثنتين وانتهت المشكلة، أما تظلي هكذا لا طايلة سماء ولا طايلة أرض ولا رسيت على بر.. تعب) وآخر يشكو حب زوجته التي ملكت قلبه وروحه مع وجود بعض العيوب فيها، وعدم تقدير حبه لها، وهو يعيش في عذاب، فلا هو يستطيع تركها ولا هي تغيرت.. قلت له: إما أن ترضى بهذا الحب وكيفيته من هذه الحبيبة، وإما أن تتركها مهما تألمت، ووجع ساعة ولا كل ساعة. علقه بالله: كل الأمور إذا ما ظلت معلقة خلفت وراءها أضراراً كثيرة إلا شيئاً واحداً إذا ما ظل معلقا كان الخير كل الخير في تعلقه، إنه القلب المعلق بالله تعالى، فالقلب المعلق بالله تعالى قلب رقيق قوي، سعيد، مطمئن، لا تخترقه الهموم ولا تضره نوائب الدهر.
أحلام القبيلي
لا تذروها معلقة 1113