يشهد اليمن في خضم حربه الأهلية انهياراً كبيراً للعملة وعجزاً عن تأمين الغذاء والدواء والمياه النظيفة، يتبعها الجوع والأوبئة. لا يستطيع حاملو الرشاشات رؤيتنا خلف اللوح العاكس للسيارة الحقلية المتقادمة. طابور طويل من الشاحنات الصغيرة تتوجه على طريق النهر، بينما يقف ذوو الملابس الرسمية على سيارات أم-جي المفككة. ربما كانوا مصطفين بانتظام لفتح النار على المتظاهرين الذين وددنا التحدث معهم. لم نر بعد الكثير من الشفافية في رحلتنا. فقد قام محافظ حضرموت، كبرى محافظات اليمن، بدعوة عدد من الصحفيين للقدوم ورؤية الهدوء والأمان في عاصمته المكلا. الميناء يعمل وصادرات النفط تمر بعيداً عن الرصاص والقنابل على الأقل حتى ثالث يوم من إقامتنا. ففي بداية سبتمبر / أيلول ومنذ الصباح بدأ المتظاهرون بالخروج لساعات وفي ساعات القيظ لإحراق الإطارات وقطع الطرقات. يضحك المرافق الرسمي في السيارة في مكان وقوفه ويقول: "غاز مسيل للدموع؟ ليس لدينا مثل هذا، فقط الهراوات أو الرصاص". ليس فقط في المكلا، بل في المدن الرئيسية الجنوبية كعدن والعاصمة صنعاء، يخرج الناس إلى الشوارع بالرغم من ظروفهم المعيشية الصعبة بهدف التظاهر، خارجين من طرفي جبهات العمليات القتالية ضد خصم مميت لا يقل عن العنف المسلح: انهيار عملتهم. الريال اليمني في حالة سقوط حر، فقد خسر ثلث قيمته أمام الدولار منذ بدء النزاع، ما يضعف قيمته الشرائية باستمرار ويقلل من قدرة مالكيه على شراء البضائع كالخبز والخضار والرز. أكثر من 90 بالمئة من الأغذية يستوردها اليمن بالعملة الصعبة. كانت ردة فعل النخب من الجانبين متشابهة: المتمردون الحوثيون يعتقلون عشرات المتظاهرين، وجنود حكومة عبد ربه منصور هادي المقيمة في المنفى يفتحون النيران على المتظاهرين. الحوثيون يغلقون محلات الصرافة وهادي يقيل رئيس الوزراء في أكتوبر / تشرين الأول ويرفع الفوائد. السعودية تعلن عن تحويل 200 مليون دولار لكن لا أحد سيوقف الكارثة الوشيكة. يقول مارك لوكوك منسق الشؤون الانسانية في الأمم المتحدة محذراً مجلس الأمن: "اليمن يواجه مجاعة بحجم لم يشهده أي خبير إغاثي في حياته". كل شيء من الأغذية ووقود المولدات في المشافي والسيارات والمياه وأدوات النظافة والتخلص من النفايات، كله يجب دفع ثمنه وكله يزداد قيمة. كل ما يملكه الناس من ذهب وأراضي وسيارات وأثاث باعوه منذ زمن بعيد. الحرب اليمنية عرفت بالحفر والقنابل والأطفال الرضع الجرحى في مستشفيات على شفير الانهيار، وصور الجثث والدمار، إلا أنه قبيل النزاع كان ثمة مخاطر مميتة مهملة غالباً. ومنذ بدء التحالف بقيادة السعودية والإمارات تم ردع المتمردين الحوثيين الشيعة عبر الغارات الجوية، ما سبب أكثر من 15,000 قتيل جراء العنف. ووفقاً لتقديرات فإن عشرات الآلاف ماتوا بسبب الجوع والكوليرا ونقص الخدمات الصحية. ليست المسألة أن الأغذية والأدوية غير متوفرة، بل أن كثيراً من اليمنيين يتجهون إلى حتفهم نتيجة انهيار القوة الشرائية – في طرفي النزاع. الشمال الغربي تحت سيطرة الحوثيين معزول إلى حد ما، ونفس الشيء بالنسبة للموانئ كالمكلا في الجنوب، حيث لا يوجد قصف وتحرص دول الخليج الثرية المشاركة في التحالف على الاستقرار، الذي لا يهدده شيء سوى الانهيار الاقتصادي. في مشفى التوليد الوحيد في دائرة قطرها أكثر من 100 كيلومتر، يظهر الخوف في صوت الدكتورة المديرة أبها بويضة، والتي تقول "لن نستطيع الاستمرار طويلاً، لدينا 40 ولادة في اليوم، والنساء ينتظرن على المدخل يترجيننا". في السابق كانت الحوامل يستطعن تجنب العيادات خاصة لكنها الآن أصبحت أمراً لا مفر منه. يقول رجل مدمى برفقة ابنه في غرفة الطوارئ "الصيدلي يبيعنا الأدوية بالدولار أو بالريال السعودي حصراً". ليست هذه حالة إسعافية لعيادة توليد، لكن تم إنقاذ الرجل من جرح على جبهته أصابه به جندي أثناء المظاهرة. يقول أنور علي ذو الأربعين ربيعاً والذي يعمل في معمل للتونة في المكلا: "تضاعف سعر كيس الرز منذ شهر، لكن راتبي لم يرتفع وهو بالأصل قليل، والسلطات تقول إنه ليس بمقدورها فعل شيء في وجه التضخم، ولدينا خوف من المجاعة في حال صرنا في الشارع". بين أطفال مثيرين للأسى ذوي بشرة مترهلة وبطون متورمة، تحاول الدكتورة مكية مهدي إنقاذ من لا تستطيع إنقاذهم في المعتاد، من ذوي عام واحد بوزن مشابه لحديثي الولادة. تقول "مات أربعة أطفال صغار منذ بداية الأسبوع الحالي، واحد كل يوم". تتعجب الطبيبة في مشفى أسلم شمال غرب البلاد كيف يهتم العالم بقتل السعودية للمعارض جمال خاشقجي "بينما يعاني ملايين الأطفال اليمنيين ولا أحد يبالي". فقط أولئك الذين لديهم قدرة على دفع الكلف الخيالية لمغادرة قراهم يصلون إلى المستشفى حيث تعمل هي. يحتاج 8 مليون إنسان للمساعدات الغذائية العاجلة وقريباً سيصبحون 14 مليوناً، أي نصف السكان. ومن بين مليوني طفل مصاب بنقص التغذية، أربعون ألفاً بحالة حرجة، ومئة ألف وفقاً لخبراء أمميين. لطالما كان اليمن فقيراً، لكنه الانحدار السريع للعملة وصعوبة وصول العملة الصعبة إلى البلاد من منظمات الإغاثة، بينما يتم تحويل ايرادات النفط المملوكة للدولة إلى حساب بنكي في السعودية بالدولار. الكارثة لم تسقط من السماء. يقوم كلا الطرفين، الحوثي وحكومة هادي في المنفى وداعميها الخليجيين، باستخدام المحنة كسلاح. كان انهيار العملة نتيجة لقرار سعودي مرتبط بعودة الرئيس هادي، أثبت أثره خلال عامين وما يزال يتكشف: شل البنك المركزي، الذي كان يتولى مسألة استقرار العملة والسياسات النقدية وكان المسؤول عن الرواتب في البلاد، حيث كان يحصل 1.2 مليون موظف وشرطي وعسكري على رواتبهم ويعيلون 6 ملايين إنسان. ومنذ اندلاع الحرب الأهلية، استمر البنك بعمله والالتزام بالمواثيق الدولية وتثبيت احتياطي العملة الصعبة المتأرجح، باختصار: حاول البنك الحفاظ على الدولة، حتى الجنود من الطرفين كانوا يحصلون على مرتباتهم، طالما أنهم كانوا في الجيش في عام 2014، كما كان المدرسون والشرطة والموظفون الإداريون والأطباء والممرضات داخل البلاد يتلقون رواتبهم. وكل أسبوعين عادة كان هناك رحلة إما عبر طائرات نقل عسكرية تابعة للجيش أو طائرات قديمة للخطوط الجوية اليمنية بصفوف من المقاعد من صنعاء إلى عدن في الجنوب محملة بالنقود في خضم الحرب. كان قرار نقل البنك جنونياً، سواء لهذا الطرف أم ذاك، فقد كان البنك المركزي سلطة هامة ومساراً لعودة فاعلية الدولة ودوران عجلة المؤسسات. كان هو من يمنع تفكك الجيش إلى ميليشيات ومن يضع حداً لتجار الحروب وقطاع الطرق واللصوص والمبتزين الشائعين. كانت تلك المسؤوليات تقع على عاتق حاكم البنك المركزي محمد بن همام. إلى أن أبعده الرئيس هادي في عام 2016 ونقله إلى عدن مما جلب الويلات على اليمن اليوم. حذر حاكم البنك اليمني المركزي المبعد محمد بن همام من انهيار الدولة وعاد إلى مدينة الشحر الصغيرة التي تبعد عن المكلا مسافة ساعة بالسيارة شرقاً. هنا يجلس الآن على أريكة حمرا في منزل عائلته بحال ليست فقيرة وليست باذخة. بصوته المبحوح عبر بصراحة عن عدم رغبته بالكلام، لكن زميله منصور راجح كبير الخبراء الاقتصاديين في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية قدمنا إليه فوافق على القيام بأول مقابلة له منذ عامين. منذ عام 1990 عمل محللاً ضمن مجلس إدارة البنك المركزي، ثم أصبح محافظ البنك في عام 2010. ومع بدء التحالف الخليجي في عام 2015 وبدء القصف على صنعاء وعدن، بقي هو في صنعاء. يتذكر منصور: "قام أحد أعضاء اللجان الثورية الحوثية بالقدوم إلى مكتبي بن همام وأوضح أنهم يتحكمون بكل شيء من الآن وصاعداً". وقد رد عليهم أن بإمكانهم بالطبع الاستيلاء على البنك لكن ليس وهو موجود، ومن وقتها لم يتدخلوا في عمله قط. سافر بن همام للرياض وواشنطن، وأجرى مفاوضات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ووعده الجميع بالحفاظ على استقلالية البنك المركزي. لكن هذا الوعد لم يتحقق. فالسعودية لم تكن تريد الاستقرار بل النصر، وقد كان مضى على تصعيدها العدوان أسابيع قبل أكثر من عام. تقوم الرياض بالتجويع المتعمد: فمنذ يونيو / حزيران 2016، بدأ الرئيس هادي بتحويل عائدات النفط من الحقول المسيطر عليها إلى حساب في بنك سعودي بدلاً من البنك المركزي. وفي يوليو / تموز، أصدر أوامر للبنك للمركزي بقطع جميع الأرصدة من العملة الصعبة في الخارج. وفي 18 من سبتمبر / أيلول قام أخيراً بعزل بن همام ونقل البنك إلى مدينة عدن المشتعلة، محتجاً بفكرة "الحفاظ على استقلالية البنك". بعد عدة أيام، أعلن أنه "لم يعد بمقدورنا دفع مرتبات موظفي القطاع العام من الآن وصاعداً". الجوع سلاح. لم يتلق الموظفون في مناطق بسيطرة الحوثيين سوى أربعة رواتب متواضعة خلال عامين. كان نقل البنك بمثابة تفكيك له، فالبنك الجديد في عدن لم يمتلك نظام السويفت كود SWIFTCODE وبالتالي لم يكن لديه القدرة على التحويلات النقدية الدولية. وواردات النفط كانت تحول لحساب بنكي في السعودية، وكان لدى خليفة بن همام وصفة ضد انحدار قيمة العملة: طباعة المزيد من الريالات اليمنية بالمليارات. ويقول بن همام: "نحن نتأرجح في كارثة، والتضخم سيتفاقم". وعدت السعودية بملياري دولار في بداية 2018 لكنها لم تقدم سوى 20 مليون تقريباً والباقي ما يزال في الأرصدة السعودية. كان يمكن لمدينة المكلا الواقعة بين المحيط الهندي والجبال الصحراوية أن تزدهر، فهي بعيدة عن جبهات القتال، وميناؤها هو الوحيد الذي ما يزال يعمل في البلاد، إلا أنه يفتقر إلى رافعة لتفريغ البضائع. يقول المحافظ فرج البحسني وهو ضابط سابق معروف بنزاهته أنه لا يحصل على شيء من حكومته، كل الرواتب للمدرسين والأطباء والموظفين يدفعها من ميزانيته الخاصة والتي تأتي من عائدات الجمارك الشحيحة، ومن خمس عائدات النفط المخصصة لمحافظة حضرموت. "عندما يرغب المجتمع الدولي فسيوقف الانهيار. لكن هل يريدون ذلك حقاً؟" يصف المبعوث الأممي لليمن، مارتن غريفيث، وضع الاقتصاد في الهاوية كأكبر خطر على البلاد: "هذه هي الأولوية! وعلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة ودول الخليج وضع مخطط تنظيمي خلال الأسابيع القادمة!". ودعا وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو يوم الخميس إلى إجراء محادثات سلام خلال 30 يوماً، وإنهاء النزاع. يأتي ذلك عقب القتل الوحشي للمعارض جمال خاشقجي. الرجل الذي أراد منع وقوع الكارثة يجلس في غرفة المعيشة في بيته في الشحر. يشعر المرء بالمرارة عند سماع صوته، أن يترجى الحاكم السابق للبنك المركزي العالم: "عندما يرغب المجتمع الدولي فسيوقف الانهيار، وعندما يستطيع إعادة إنشاء بنك مركزي مستقل وتأمين حمايته وإعادة واردات النفط ودفع رواتب الموظفين وتثبيت الريال من خلال أربعة مليارات دولار لا بمليارين، عندها يمكن إنقاذ البلاد". يقف لوهلة ثم يتابع: "لكن هل يريدون ذلك حقاً؟". ترجمة خاصة- دير شبيجل الالمانية
كريستوف رويتر
الموت الصامت 876