عندما كان الناس أصحاء أخلاقياً ونفسياً ودينياً كان يكفي أن تُقدم للشخص معروفاً واحداً وجميلاً واحداً في موقف واحد ليصبح بعدها مديناً لك بحياته طول عمره. كان يكفي أن تشرب مع أحدهم كوب شاي أو فنجان قهوة أو مذقة لبن أو تأكل معه رغيف خبز يابس ليصبح بينك وبين هذا الشخص عيش و ملح يستحيل أن ينساه أو يخونه مهما كان الثمن.. أما اليوم، و في زمن كثُر فيه مرضى النفوس وأصبحت الأخلاق معلولة والقيم مصلوبة مغلولة، ستجد المعروف والجميل والعيش والملح تعرض في المزاد فمن يقدم أكثر كان الرابح الأكبر حتى يأتي من يمحو أثر معروفك وجميلك ويقدم أكثر مما قدمته دون أن يكون وضعك واستطاعتك و قدرتك وجهدك محل اعتبار.. وكما قال الحكماء" ليس من الحب أن تعطيني ما أنا بحاجة إليه، لكن الحب والإيثار والعطاء أن تعطيني ما أنت بحاجة إليه.. وكما قال الصادق المصدوق- صلوات ربي وسلامه عليه- "دينار سبق ألف دينار".. و في زمن مرضى النفوس لا يكفي أن تأكل معه عيش وملح ولحم وكبسه ومندي عشر سنوات "وتعصد ببطنه عصيد" فحتماً سينسى كل ذلك من أجل رأي سياسي واختلاف حزبي ومصلحة دنيوية... ومهما ذكرته بذلك سيقول لك "ما عرفتك".. وما يقهر القلب و يُدمي الفؤاد أن تجد أقرب الناس إليك وقد أصبح يُضمر لك العداوة والبغضاء زاعماً أنه يطبق أمر الله تعالى في قوله الكريم": "لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ ". دون ذنب يستحق ذلك إلا ما يراه عقله الجاهل ونفسه المريض. ولو أن هؤلاء المرضى تأملوا في سيرة الحبيب- صلوات ربي وسلامه عليه- لوجدوا شفاءً لما في الصدور المريضة و دروساً عظيمه للنفوس السقيمة، فقد ظل الحبيب حافظاً لجميل المطعم بن عدي الكافر المقاتل المحارب للإسلام.. حتى بعد موته على الكفر قبل غزوة بدر، فلما أسَرَ المسلمون في غزوة بدر سبعين من المشركين، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني (طلب الشفاعة) في هؤلاء النتنى لتركتهم له.. وكان المطعم بن عدي قد أجار الحبيب- صلوات ربي و سلامه عليه- بعد عودته من الطائف مع علمه أن المطعم فعل ذلك عادةً و ليس ديناً.. و نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل ابو البختري الذي كان في صف المشركين يوم بدر، فقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( من لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله). ثم أورد البيهقي قول ابن إسحاق:" وإنما نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بمكة وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة المقاطعة". و المريض يقولك "وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ " و كأنك أبو لهب وأميه بن خلف وهو عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لمجرد اختلاف في وجهات النظر.. وحسبنا الله و نعم الوكيل
أحلام القبيلي
يا خسارة العيش و الملح 1282