الدرس الذي تعلمناه في مجال العلاقات الدولية، والذي علّمناه بدورنا لتلاميذنا فيما بعد، كان ضرورة التمييز ما بين القضايا الجوهرية والحاسمة، و«الضوضاء» التي كثيراً ما تحدث نتيجة أحداث عارضة، أو طريقة قيادات سياسية في الحديث عند التعامل مع ظروفها السياسية الداخلية، أو ما شابه ذلك؛ مما يؤدي إلى صرف النظر عن الأمور الكبرى، والانشغال بما هو حال ولامع ومدوٍ. وللتوضيح، فمنذ بداية العقد الحالي، ومع ظهور ما سُمّي الربيع العربي وما تلاه من أحداث جسام سببت خللاً كبيراً في العلاقات الإقليمية، والدولية كذلك، تولدت ثلاثة مصادر لتهديد الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط: أولهما التوسع الذي حدث في التطرف والتعصب والإرهاب الذي امتد عبر دول كثيرة وسعى لإقامة دولة سماها «الخلافة الإسلامية»؛ وثانيهما أن إيران، وقد ساد الفراغ في أكثر من دولة عربية، سعت إلى ملئه بقواتها مباشرة أو عن طريق صنائع محلية كما كان مع «الحشد الشعبي» في العراق، و«حزب الله» في سوريا ولبنان، والحوثيين في اليمن؛ وثالثها حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي نجمت عن الثورات والحروب الأهلية التي كانت لها آثار مباشرة وغير مباشرة على المنطقة كلها. هناك، ولا شك، روابط ما بين التهديدات الثلاثة، وعلى أية حال فإن جميعها سبب حالة مزمنة من عدم الاستقرار الإقليمي، وتدخلات إقليمية ودولية بكل أنواع التدخل العسكري والمخابراتي. كانت هذه، وما زالت، هي القضية الرئيسية للأمن الإقليمي الذي تعيش الدول العربية في ظله؛ وقبل فترة قصيرة أعلنت الولايات المتحدة عن مشروع لتحقيق الأمن الإقليمي تحت اسم «التحالف الاستراتيجي الشرق أوسطي أو MESA». تسبب هذا الطرح في نقاش حاد داخل الساحة العربية لم يلبث أن غطى عليه نوعان من الضوضاء: قضية الصحافي جمال خاشقجي؛ وتصريحات متضاربة للرئيس الأميركي دونالد ترمب أعقبها تدخلات من أعضاء في الكونغرس في العلاقات الأميركية السعودية مع تغطيات إعلامية مغرقة في تحيزاتها المهنية، وزاعقة في مواقفها المضادة للدول والمصالح العربية. لكن ما يهمنا في الحقيقة هو حالة الشرق الأوسط وما يجري فيه، وكيفية التعامل مع أوضاعه الخطيرة وغير المستقرة؟ الغريب هو أن تعامل حفنة من الكتاب العرب مع الاقتراح الأميركي كان سلبياً، وجرت استعادة ذكريات «حلف بغداد» و«الحلف المركزي» والطرق الخلفية التي تستخدمها الولايات المتحدة للاختراق والهيمنة التي هي بالطبع لصالح «الكيان الصهيوني». وفي أحيان أخرى جرى استدعاء معاهدة الدفاع العربي المشترك 1950 للدلالة على عقم التحالفات العربية وعدم جدواها هي والجامعة العربية أيضاً. كل ذلك دون معرفة أي معلومات عما جرى بين الأطراف العربية المختلفة والولايات المتحدة عندما طرح هذا الاقتراح، ودون طرح السؤال: هل يحتاج العرب إلى الولايات المتحدة من أجل إقامة تحالف عربي يعيد توازن القوى في المنطقة إلى الدرجة التي تردع التهديدات الواقعة عليها؟ من ناحيتنا، وفي هذا المقام بصحيفة «الشرق الأوسط» الغراء، طرحنا في مقالات متعددة أمرين: الأول ضرورة إقامة منظومة عربية أمنية أو Concert of Arabia ما بين الدول الفاعلة التي نجت من كارثة الربيع المزعوم؛ والآخر المضي في مشروع طموح للإصلاح الداخلي يزيد من مناعة الدولة العربية ويحافظ عليها. الواقع العربي خلال الفترة الماضية يشير بوضوح إلى أن السعودية ومصر والإمارات والبحرين شكلت تحالفاً رباعياً ليس مقصده التعامل مع المؤامرات القطرية فقط، وإنما تعزيز العلاقات العسكرية والأمنية والاقتصادية بين أطرافه. ومنذ أيام جرت المناورات العسكرية المشتركة «تبوك» بين قوات مصرية وسعودية، وبشكل دوري فإن هناك المناورات البحرية المشتركة «مرجان»، كما أن هناك سلسلة مناورات «زايد» بين مصر والإمارات، ومثلها بين مصر والبحرين. ولا يحتاج الأمر إلى استدعاء ذكريات حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي اتحد فيها السلاح والنفط العربيان، ولا الوقفة التي وقفتها السعودية والإمارات والكويت مع مصر بعد ثورة 30 يونيو (حزيران)، ولا الوقفة الحالية من قبل الدولتين مع البحرين والأردن. في الوقت نفسه، فإن «الإصلاح» يجري على قدم وساق في الدول الأربع والأردن والكويت، وأحياناً ما يكون ذلك ببعد عربي واضح كما هو الحال مع مدينة «نيوم» السعودية التي تمتد إلى مصر والأردن؛ والمشروع المصري لكي تكون مصر مركزاً لطاقة الغاز في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط الذي تشترك فيه السعودية والإمارات منذ مشروع «السوميد» لنقل النفط من دول الخليج العربية من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط وحتى الوقت الحالي. المسألة إذن ليست الاقتراح الأميركي وإنما التطورات الجارية في المنطقة العربية والاستعداد فيها لاتخاذ قرارات صعبة، وربما الاستناد إلى ما جرى وتم بالفعل، سواء كان ذلك في إطار التعاون العسكري أو التعاون الاقتصادي أو بحل الأمور المعلقة مثل تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية التي أضافت للبلدين قدرات تنموية هائلة. كل ذلك كان أمراً عربياً من الأول للآخر، ولم يطلب أحد من الولايات المتحدة إنشاء «تحالف شرق أوسطي» أو «ناتو» عربي، ولا يقلل من قيمة الولايات المتحدة وأهميتها للمنطقة والعالم أن يقرر العرب بأنفسهم كيفية الدفاع عن كيانهم وأمتهم، وربما يكون ما تحقق بالفعل ويمكن البناء عليه هو نقطة البداية للتعامل مع أوضاع المنطقة، سواء ما تعلق بها بتحقيق الاستقرار أو التنمية والرخاء. صحيح أن التاريخ العربي زاخر بمشروعات طموحة من أول معاهدة الدفاع العربي المشترك في مطلع الخمسينات، والقيادة العربية المشتركة في منتصف الستينات، وحتى القوة العربية المشتركة قبل سنوات. لكن التجربة الراهنة غنية بالتفاصيل والدروس التي تكفي لتحديد كيفية الانتقال من النقطة الراهنة إلى آفاق أوسع تتناسب مع حدة التهديدات الحالية التي يمكن أن تتصاعد نتيجة الطموحات الإيرانية، وسعي الإرهاب إلى تقويض الاستقرار في الدول العربية كلها. التحالف العربي الرباعي الحالي يقوم بين دول تلاقت إرادتها على التعاون الأمني والاقتصادي وبأشكال شتى، وعليها أن تحدد الخطوات القادمة لتعميق وتوسيع هذا التحالف وزيادة قدراته للتعامل مع التهديدات المشار إليها. ما تحتاج إليه الدول الأربع هو شبكة من الاجتماعات القيادية على مستوى قادة الدول ووزراء الدفاع ورؤساء الأركان ووزراء الاقتصاد والمالية تخصص لتحديد مستقبل التحالف. وفي الدول المتقدمة فإن شبكة من مراكز البحوث السياسية والاستراتيجية الرسمية وغير الرسمية تقوم بتوليد الأفكار والاستراتيجيات العليا التي تنظر في تنظيم وهيكلة اتخاذ القرارات وتعبئة الموارد التي تجعل المنظومة كلها تحقق أهدافها. هذا ما رأيناه في القضية الكبرى للأمن العربي، أما تناول ما يحدث من ضوضاء فربما يكون له وقت آخر! * رئيس مجلس إدارة صحيفة المصري اليوم بالقاهرة، ورئيس مجلس إدارة ومدير المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة "الشرق الأوسط"
عبد المنعم سعيد
التحالف الاستراتيجي العربي 731