لم تكن اليمن بلداً شبيهاً بالجحيم قبل الحرب فحسب كون وسائل صد ذلك الجحيم كانت أشد قسوة وبؤساً وإلا يستعصي البقاء على الكثيرين ممن خذلت أحلامهم التي كانوا يضعونها في طفولتهم وشقوا طريقاً موازياً يتوأم مع ممكنات الواقع ومتاحاته كي لا يسقطوا في هاوية الضياع، وإذا ما شددنا النظر صوب واقعنا المرير لصادفنا الكثير من الحكايات والسير لأناس هم في الحقيقة فرساناً وأبطالاً واجهوا مرارة الحياة بشجاعة ونبل غير مكترثين بسهام الخيبة والخذلان واستطاعوا صنع عالمهم بطريقتهم الخاصة التي لا تخلو من صمود ولا يشوبها فشل. وأنا هنا أسرد حكاية شاب ينتمي لنفس الجغرافيا التي احتوت طفولتنا وافترقنا في سن باكرة؛ ليتجه الشاب #زائد_محمد_مصلح صوب مصدر رزق يقيه من الجوع ويجنبه خوف الفقر متخلياً عن الدراسة نظراً لعدم قدرته على الاستمرار في التعليم كونه ينتمي لأسرة معوزة في أدغال #وصاب_العالي، حيث لا يملك أبوه دخلاً متيسراً كوظيفة أو عمل ثابت إلا ما يبذله بجهد يده وبكد عرقه بشكل يومي كعامل بناء، مهنة ورثها زائد أيضاً عن أبيه ومارسها طيلة حياته، وكانت السبب في نهايته،، وليست وسائل كسب لقمة العيش مشكلة،، كذلك نظم الحياة التي تفرض عليك تحمل أضعاف المعاناة بالزواج المبكر وازدياد حجم الألم وهذا ما حل بزائد بالفعل. وحين قامت الحرب فر من جحيمها إلى مأرب كمأوى لنفسه ولأسرته، حيث لا يملك فيها ما يمكنه من السكن في شقة،، وهناك نصب له ولعائلته مخيماً متخذاً منه مسكناً وبقي على ذلك الحال أربع سنين،، يخرج صباحاً ويعمل في حر الصيف وزمهرير الشتاء موفراً لقمة كريمة لمن يعول،، ومع ازدياد موجة التوسع العمراني في مأرب اختار لنفسه العمل في حفر البيارات والخزانات الأرضية باعتباره العمل المتاح حالياً في مأرب كمدينة ناشئة عمرانياً وفرت الاستقرار للكثير من الأسر،، لكنها في الأمس ابتلعت حياة هذا الإنسان المكافح والنبيل،، ووضعت حداً لحياته البائسة لمن ينظر لها من بعيد، وربما لم يكن هو ليتذمر هو من حاله النضالي،، لقي زائد حتفه بتهدم هيكل حفرة المجاري بأعمدتها الإسمنتية وصقالتها الحديدية، وبقي تحت الانقاض لساعات دون منقذ أو مغيث حتى فارق الحياة، تصوروا مدينة بحجم #مارب ليس فيها دفاع مدني مستعجل لمثل هذه الحالات المؤلمة التي كان غياب تلك الخدمة كفيلاً بفقدان حياة زائد بيسر. قد تكون الساعات التي قضاها زائد يستنشق رائحة الأسمنت ويتحمل حمولة الحديد موازية لكل المتاعب التي تلقاها في حياته، وما يثير التساؤلات هو كيف انقضت تلك اللحظات الأخيرة عنده؟؟ وما الذي دار بخلده؟؟ وكيف تلاشت صورة الحياة أمامه رويداً رويداً؟ وخفتت بوادر الأمل في النجاة حتى بلغ النهاية منتظراً الموت بمرارة وغبن لا يماثلهما شيء؟.. وأظنه لم يكن ليأسف على مصيره هذا إلا لأنه سيترك خلفة أسرة تقبع في خيمة وتنتظر لقمة كان هو ميسرها. والأفدح من ذلك أن فقدان الأسرة لمعيلها بهذا الشكل المفجع، وبالعجز الذي سيقلب حياتهم رأساً على عقب سيبقيها لسنوات في عراء الحزن ولهيب الغياب وليس هذا الأمر خاصاً بأسرته فحسب بل سيعم أهليه ومحبيه وممن استحسنوا سيرته وسلوكه الذين يرون فيه نموذجاً للكفاح ورمزاً للعزة والكرامة والسلوك الحسن والنبيل، ولعل هذه النهاية المأساوية قد ختمت سلوكه العملي بنفس النمط المرير الذي به عاش وعبره لقي حتفه،، لكنه سيظل موضع تقدير واحترام ووجع مستديم. طبت في حياتك وطبت في مماتك الذي هز كياننا وأشعرنا بضعفنا وآلامنا التي تعددت سبلها وكثر انهمارها من كل حدب وصوب ليجرفنا بلا تراجع .
علي العزي
سيرة ألم حتى النهاية 726