تعيش اليوم جالية يمنية كبيرة نسبيا في الولايات المتحدة وقد ساهمت الحرب والأوضاع الأمنية والاقتصادية المتدهورة خلال السنين القليلة الماضية في تزايد أعداد المهاجرين اليمنيين، وبخاصة حين قرر الكثير ممن يعيش ويعمل هناك جلب عائلاتهم وأولادهم للعيش والحياة في أميركا. وفقاً لتقديرات معهد سياسات الهجرة الأميركي، يبلغ عدد المهاجرين ذوي الأصول اليمنية في أميركا حوالي 45,000 (تقديرات 2015م)، ولربما تضاعف العدد مرتين خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة لأن الكثير من اليمنيين الأميركيين، كما أسلفنا، جلبوا عائلاتهم لينضموا إليهم، كما دخلت أعداد لا بأس بها عن طريق التأشيرات السياحية وتأشيرات الطلاب واليانصيب وغيرها. لا يوجد ما يؤرخ لبدايات هجرة اليمنيين إلى الولايات المتحدة، إلا أن بعض الدراسات تقول بأن هجرة اليمنيين إلى الولايات المتحدة بدأت في القرن التاسع عشر. وبعد الحرب العالمية الثانية ارتفعت وتيرة الهجرة وبدأ البعض يفكر في أميركا كأرض للفرص والثروة والحلم. بدأت أغلب علاقات اليمنيين بالأجانب في عدن والتي كانت وحتى العام 1967م واقعة تحت الاستعمار البريطاني، وعمل البعض بشكل مباشر معهم سواء في عدن أو في بعض مستعمراتهم خلف البحار، كما أن البعض الآخر عمل على متن السفن وقد مروا بالتأكيد في الكثير من موانئ العالم وحواضره المزدهرة وقتها ومنها ميناء نيويورك. يذكر أحد المهاجرين بأن والد أحد أصدقائه وكان يعمل على متن إحدى السفن قد حط رحاله في أميركا، وبالتحديد في نيويورك، خلال عقد العشرينات من القرن المنصرم، وشهد كما شهد أهل البلد، الكساد العظيم بين عامي 1929م و1939م ويقول أيضا، نقلا عن أبيه، بأنهم اضطروا وقتها لأكل أوراق الشجر ونشارة الخشب بسبب الجوع وانعدام مصادر الدخل. وتزايدت أعداد المهاجرين اليمنيين خلال عقد الستينات وبداية السبعينات، وتراجع الرقم نهاية عقد السبعينات والثمانينات بسبب تحمس الكثير للذهاب إلى دول الخليج خلال الطفرة النفطية والتي ازدهرت خلالها الأعمال وارتفعت وتيرة الطلب على الأيدي العاملة والتي كان لليمن نصيب الأسد فيها. عاد الرقم إلى الارتفاع مرة أخرى بداية التسعينات وبعد حرب الخليج الثانية والتي وقف خلالها النظام في صنعاء مع نظام صدام حسين، ما جعل دول الخليج تطبق نظام الكفالة على العمالة اليمنية وهو ما دفع الغالبية الساحقة منهم لترك تلك البلدان والعودة إلى اليمن. وبمجرد العودة من دول الخليج، غادر البعض للعمل في أميركا. عمل المهاجرون الأوائل في مصانع السيارات ومصانع الحديد في كلا من ديترويت وبافلو ونشط أغلب من سكن نيويورك في مجال التجارة، كما عمل بعضهم، كما هو الحال في كاليفورنيا، في مجال الزراعة وتربية المواشي وغيرها من الأنشطة المتصلة بهذه الحرفة. يتوزع أغلب أبناء الجالية اليمنية اليوم في ثلاث ولايات رئيسية هي ميتشجن ونيويورك وكاليفورنيا، وهناك حاليا استكشاف لبعض الولايات الأخرى من قبل جيل الشباب من أبناء الجالية اليمنية في الولايات المتحدة الأميركية كولاية كارولينا الشمالية وتنسي وغيرها. يعمل أغلب اليمنيين في أعمال حرة وأغلبها تتعلق بتجارة التجزئة وأكثرها بقالات و"دِلِي" وبعض المطاعم، فيما يعمل آخرون في مصانع السيارات ومحطات الوقود وبيع الهواتف المحمولة واكسسوارتها ومكاتب الخدمات ومبيعات الجملة والتوزيع. وينخرط عدد قليل جدا من اليمنيين في القطاع العام، كما يعمل عدد محدود للغاية في شركات القطاع الخاص، أما نسبة اليمنيين الذي يعملون لدى المنظمات غير الحكومية ومراكز البحوث ما زالت متدنية وخجولة للغاية. إنخرط قدامى المغتربين من المهاجرين اليمنيين في العمل في قطاع صناعة السيارات (مشجن)، أو تجارة التجزئة وبالذات في مجال البقالات وبيع الوجبات الخفيفة (نيويورك)، لكونها لا تتطلب الكثير من المهارة والخبرة والتعليم. تتبع الأبناء، وأكثرهم لم يحظ بتعليم جيد، خطى الآباء وعملوا في نفس المجال واستثمروا فيه. يكاد يكون قطاع الأعمال الصغيرة محصوراً على اليمنيين في أماكن كثيرة من نيويورك وبعض الولايات الأخرى ويواجهون منافسة متوسطة من المهاجرين القادمين من الدومنيكان وبعض بلدان أميركا الجنوبية، الذين سبقوا اليمنيين في عمل المحلات والدكاكين الصغيرة، كما يقول بعض قدماء الجالية اليمنية. الجالية اليمنية والتعليم التعليم يأتي في أدنى سلم الإهتمامات بالنسبة لليمني الأميركي ويرجع ذلك إلى أن اليمني بطبعه، كما باقي العرب، يفكر في الفائدة الآنية السريعة والملموسة، وتفكيره في العادة قصير المدى ولا يعتد أبداً بالأمور التي تتطلب طول البال والنفس الطويل والاستثمار طويل المدى. ولذا يلاحظ عموما تدني مستوى التعليم بين اليمنيين الأميركيين، ورغم تواجدهم في واحدة من أفضل دول العالم من حيث جودة التعليم، إلا أن المواطنين الأميركيين من أصول يمنية لا يستفيدون من وجودهم في هذا البلد وعادة ما يطمح الآباء في نقل مهنهم إلى أولادهم. نسبة التعليم بين الإناث، وبالذات في التعليم الثانوي والجامعي، وإن كانت النسبة متدنية إجمالا، هي أعلى مقارنة بنظرائهن من الذكور. ومع ذلك، فإن نسبة كبيرة من الإناث المتعلمات لا يعملن وغالبا ما يبقين حبيسات المنازل أو يذهبن إلى بيوت أزواجهن بسبب الثقافة الشرقية المتحفظة. يقول ل.م والذي تخرج ابنه من كلية الهندسة في تخصص الحاسبات وتخرجت ابنته من كلية الصيدلة في جامعة العلوم والتكنولوجيا في اليمن بأن غالبية اليمنيين الموجودين في أميركا لا يلقون بالاً للتعليم ويفضلون أن يتعلم أولادهم مهنة ويلتحقون بالعمل في المحلات بدل الذهاب إلى الجامعة. "أنا هنا أشقى وأتعب وأكدح لكي يتعلم أولادي ويسلكون طريقاً مختلفاً غير الذي سلكه أبوهم". الأنشطة التجارية اليمني شاطر وريادي أعمال بطبعه وذكائه فطري، فتجده يختار الموقع المناسب لتجارته، ولربما شعرت بالزهو وأنت ترى كل زوايا الشوارع الرئيسية والمواقع الحساسة عند مداخل ومخارج محطات المترو مملوكة لتجار يمنيين. يواجه اليمنيون اليوم منافسة قوية من الصينيين والدومنيكنز وبدرجة أقل من المكسيكيين والذين تواجدوا بكثرة في أميركا خلال السنوات الأخيرة، كما يعاني اليمنيون من المنافسة الشرسة فيما بينهم، والتي غالبا ما تتجاوز مرحلة المنافسة الشريفة إلى الخصومة والعداوات. يقول أحد اليمنيين الذي افتتح والده محلهم التجاري قبل ما يربو على ثلاثين عاما، بأنهم باتوا يواجهون منافسة شرسة من الصينيين والمكسيكيين، كما أنه يعزو تراجع مبيعات محله إلى تغير في ديمغرافيا السكان الذين يقطنون المنطقة حاليا وكذلك تغير أنماط البيع والشراء. ويزيد آخر بأن المنافسة غير الشريفة بين اليمنيين أنفسهم أضرت بهم كثيراً، وبدلا من تنويع الأنشطة التجارية، يعمل اليمنيون في أنشطة متشابهة ويتزاحمون في أماكن معينة. "تراجعت إيرادات المحل بشكل كبير. كنا الوحيدون في هذا المربع، والآن هناك أكثر من ثلاثة محلات ليمنيين آخرين". ومع ذلك، يرى ع.ح بأن هناك تغيراً كبيراً في نمط تفكير اليمنيين حاليا، فبعد أن قدموا في البداية للعمل في بعض المصانع والمزارع تحول الكثير منهم إلى فتح مشاريعهم الخاصة وحققوا نجاحاً ملحوظاً، وبدأت نسبة لا بأس بها باقتناء العقارات. يتفاني اليمني في عمله ويخلص له، ويعمل أغلبهم بمعدل 12 ساعة يومياً و7 أيام في الأسبوع، واعتاد الجيل القديم العمل لأكثر من 16 ساعة في اليوم. لا تتجاوز حدود معرفة بعض المهاجرين حدود المربع الذي يعمل ويسكن فيه، والبعض لم يتقن اللغة الإنجليزية بعد رغم مضي سنوات طويلة على تواجده هنا، وبالذات أولئك الذين يعملون في الظل ولا يحتكون بالزبائن بشكل يومي. واحدة من المشاكل التي تواجه اليمنيين يتمثل في عدم تطوير الأعمال وعدم التوسع في أو تنويع الأنشطة التجارية التي يعملون فيها سواء كان ذلك في أميركا أو اليمن. يفتح البعض بقالاتهم ومحلاتهم في أماكن خطيرة تكثر فيها الجريمة والمشاكل، وعادة ما يكون هناك ضحايا تعرضوا للقتل أو الإصابة على يد مجرمين. مشاكل الجالية اليمنية في أميركا يواجه اليمنيون الأميركيون صعوبة في التأقلم مع الثقافة الأميركية والاندماج مع المجتمع الأميركي، والأمر غالبا ما يتأرجح بين الإفراط والتفريط، وبخاصة وأن أغلب من هاجرا إلى هنا قدموا في الأساس من المناطق الريفية. وغالبا ما يفخر الريفي، كيمني أصيل، بثقافته المتحفظة وموروثه الجميل ويتعذر عليه التخلي عنها بسهولة أو التكيف مع ثقافة أخرى يرى بأنها تتصادم مع ثقافته. كما يجد أيضا بعض ابناء الجالية اليمنية صعوبة في التخلي عن بعض العادات والسلوكيات التي اكتسبوها من اليمن ومن هذه العادات عادة مضغ القات، والذي يحوي بعض المواد المحظورة التي يجرمها القانون الأميركي. الجالية اليمنية هي في الأساس بيئة مصغرة للداخل اليمني، لذلك من الطبيعي أن ترى نفس المشاكل التي تواجه اليمنيين في الداخل. وتعاني الجالية من الانقسام والتشتت وتعيش حالة من الاستقطاب. لا يوجد وإلى اليوم أي إحصائيات حول عدد اليمنيين المقيمين في الولايات المتحدة ولا يعرف أيضا على وجه الدقة عدد المحلات التجارية والأعمال التي يمتلكها اليمنيين، وهذا يعني الافتقار للمعلومات اللازمة للتخطيط ورسم السياسات والإستراتيجيات والخطط المناسبة التي من شأنها الارتقاء بأبناء الجالية اليمنية وتحسين أوضاعهم. كما يفتقر اليمنيين بشكل عام والتجار بشكل خاص إلى المهارات الضرورية التي تساعدهم على إدارة أعمالهم وتطويرها ونقلها إلى المستوى التالي، كما أن الجهات الحكومية لا تبذل أي جهود في هذا الجانب بغرض تنمية قدرات اليمني الأميركي وربطهم بالوطن من خلال توفير قاعدة بيانات لكل فرص الاستثمار المتاحة في الداخل وتقديم التسهيلات المطلوبة. يستفيد البلد من تحويلات المغتربين والتي غالباً ما تذهب في تغطية الحاجات الأساسية، ووفقاً لإحصاءات البنك الدولي، فإن ما نسبته 90% من تحويلات المغتربين تصرف على الخدمات كالتعليم والصحة وخلافه، وتذهب 10% فقط في مشاريع استثمارية وغالبا ما تكون هذه الاستثمارات في مجال العقارات. خلافا لما هو عليه الحال لدى الجاليات الأخرى والتي لها باع طويل في العمل الاجتماعي والثقافي والخيري وحتى السياسي وكذا العمل الخيري والتطوعي، مازال العمل في هكذا مجالات نوعا من الترف بالنسبة لليمني الأميركي، والجهات، سواء كانت منظمات أهلية أو حكومية، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة وهذه المؤسسات تقليدية في الغالب يحضر فيها المبنى ويغيب المعنى. دور المؤسسات الرسمية هنا شبه غائب وهذه المؤسسات لا تولي أبناء الجالية الاهتمام والعناية الكافيين، كما أن الملحقيات الثقافية لا تقوم بأي عمل وليس لديها أي برامج تسعى من خلالها لربط اليمني ببلده من جهة ومساعدته على الاندماج والتكيف والتفاعل الإيجابي مع المجتمع الأميركي من جهة أخرى. فاقم غياب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والمنظمات من حدة المشاكل العائلية التي تواجهها الأسر اليمنية في أميركا، وبخاصة ورب الأسرة يقضي ما يربو على 12 ساعة يوميا وسبعة أيام في الأسبوع داخل المحل، كما إن تعارض واختلاف الثقافة بين المنزل والشارع تركت هوة كبيرة بين الآباء والأبناء ما جعل الآباء يواجهون مشكلة كبيرة في تربية أبنائهم والتعامل معهم. مهما طال غياب اليمني عن بلده، فإنه يعمل ويكدح والحنين لا يكاد يبارحه شوقا ولهفة، كي يحصل في الآخر على فرصة للتقاعد والعودة للوطن الأم، ولذا فهم لا يهتمون كثيراً ببناء أنفسهم والاندماج ثقافياً واجتماعيا والتحول إلى أدوات فاعلة داخل المجتمع الأميركي. ما جاء هنا ليس سوى غيض من فيض والأمر يتطلب الكثير من البحوث والدراسات المختلفة في شتى مناحي الحياة، سواء الاقتصادية منها أو الاجتماعية، والثقافية والسياسية، بغرض الوقوف على وتشخيص كل المشاكل والتحديات التي تواجه أبناء الجالية اليمنية الأميركية وتقديم الرؤى والحلول المناسبة لها.
منير العمري
اليمنيون في أميركا 915