كانت غرفة صادق تطل على شارعين لا يعرفان السكون وكنا نرى منها مالا نراه من غرفتنا في الأسفل ففيها يحاول المهندس الشاب إعادة العمل إلى أجهزة التلفزيون التي يرفض أصحابها التخلي عنها ونحن نشاهده بإعجاب ونستبعد أن نصبح قادرين مثله على إعادة الأشياء كما كانت بعد فكفكتها رغم أنه كان يقول الأمر سهل.
ومن نافذة صادق المؤطرة بالخشب المغطاة بزجاج كسره الزمن نصفين ترى مدينة تريد أن تكبر أكثر وترى المسرعين يجرون خلف أحلامهم في الدور الثالث يخشى نبيل من الضجة في غرفته ويرقب الخطوات على درج العمارة ويوزع أصحابها فأهل الخطوات السريعة يقصدونه وأصحاب الخطوات الثقيلة يحملون تلفازاً إلى صادق في الأعلى..
تخدم لحظات الصمت نبيل فهو لا يريد أن يسمع الطارق أنه في غرفته ويخاف أن يسحب القضية من بين يديه وكان أكثر حوار يدور عند بابه حين يرفض الطارق المغادرة هات الملف حقي أنا ناوي أسامح.
وحتى بعد تخرجه بثلاث سنوات من كلية الحقوق إلا أنه لم يكن قد كسب قضايا كثيرة كنا نقول له أنت المحامي الوحيد الذي يسجنه موكلوه خلف بابه وعلى الدوام لا تفارقه ربطة عنقه التي يخشى فك وثاقها.
والى جوار غرفته يسكن سائق الباص/ أمين محمد والذي لا يتوقف طوال الوقت عن السير بين الغرف وسرد قصص الركاب وكنا نأمل أن نجد على متن باصه الذي يحمل سبعة ركاب ثامنهم أمين فتاة يتحدث عنها وقد كان يلبي أحيانا ذلك.
ولفترات طويلة ظلت غرفة صادق ملاذا آمنا لنا قبل أن يكتشف صاحب البيت مخبئنا في الأيام الأخيرة من كل شهر وقبل أن ننتقل إلى المحامي والسائق الذي كان يستغل فترة نزوحنا إليه ليكثر من قصصه التي لا تنتهي.
كان الليل يبدأ عند الثالثة فجراً وينتهي عند الخامسة وكانت جولة القادسية التي نطل عليها مكتظة بالقادمين من وجهات بعيدة وجهات قريبة ونهاية كل شهر كنا نفقد جزءا من أثاثنا وكان عبداللاه المرشدي يقول سنخرج من هنا كما جئنا أول مرة.
وقد تحقق ذلك ففي كل هجمة للمؤجر الذي يسكن شارع هائل نفقد جزءا من أملاكنا البسيطة.
ذات مرة أخذ المسجلة التي يمتلكها عبدالاله بعد أن أوقف أبو بكر سالم يا مروح بلادك عن الغناء وحملها على كتفه قائلا ما اشتيش إيجار متأخر..
وبعد أن كنا نجمع الإيجار لاسترداد الممتلكات يرفض ويقول أعجبتهم في البيت وللأمانة التاريخية فقد أعاد لنا كاسيت أبوبكر..
وبينما كان الزملاء فى كلية الإعلام يجيبون على الأسئلة، كنت منهمكا لأوقات كثيرة في التفكير فيما نفقد بكل زيارة لصاحب المبنى المحشور بين عمائر حديثة.
ذات يوم مر عبدالسلام قحطان ولم يجدني فترك رقمه ولم أكمل الاتصال إلا وقد أصر على أن لا أبقى يوما إضافيا في البيت المقام على أرض نهبها المالك كما عرفنا لاحقا..
تغيرت حياتي باتصال قحطان وأصبحت طالبا في جيبه مفتاح غرفته بفضل عبدالسلام ومحمد قحطان ومحسن معيض الذين اتفقوا على إنقاذي من الهروب الشهري إلى الاستقرار.
بعدها كرهت حتى المرور من جولة القادسية وكنت أسير منكس القلب هناك ويوم كنا نهتف ضد نظام صالح في جمعة الكرامة أطلت فوهات البنادق من النوافذ التي كنا ننام خلفها..
ومن نافذة صادق قتل جمال ومحمد وكنت أنظر من بعيد نحو المكان الذي عشت فيه سنوات من عمري الجامعي وقد اعتلاه القتلة.
أخذت الأصوات تتزاحم داخلي..
يا صادق وكان قد غادر بعدنا بعامين عائدا إلى محافظته..
يا أمين وكان قد اختار مكانا آخر في المدينة.
ويا عبد الإله وكان قد سافر سيراً على قدميه إلى السعودية ويا نبيل وكان قد فقد كل شيء تعلمه عن الحقوق وأغلقت المحاكم في وجهه..
ويا أنا وقد صرت خائفاً أمام المبنى الذي حلمت تحت سقفه كثيراً بحياة أفضل لموطني..
مع إقفال 2014 أبوابه كانت صنعاء وليس المبنى الذي سكنته فقط قد أغلقت أبوابها في وجهي.
جردتني من كل شيء وكما كان يردد عبد الإله سنعود كما جئنا أول مرة خرجت فجراً خائفا أترقب..
اعتلى القناصة مدينتي كلها وسرقوا حتى وظيفتي التي التحقت بها لعقد ونصف..
رحلوا صدام أبو عاصم Nabil Alosaidiوبقى محمد يخشي الموت كل لحظة.
وبقي Gamal Hasanيحاول الوقوف متكئاً على صمته المتقطع..
ومات أبو بكر
وصرت أرقب المدينة من بعيد
أخاف القتلة من بعيد..
أخشى على من ظل في مبانيها.
أتحسس كل ما فقدت ولم يكن أثاثا.
لقد كان جزءاً من الروح.
شيء ما لا يمكن استرداده أو البحث عنه في أماكن أخرى..
