امتطى صهوةَ المنبرِ مختالًا، وبدأ يسردُ علينا أعاجيبهُ اللامتناهية على بقعةِ هذه الأرض القابعةِ في منطقةٍ مهملةٍ من مناطق خريطة الكون الشاسعة، شعرَ بالعطشِ فازدردَ كوب الماءِ كلمح البصر، ثمَّ جفف بقايا السائل من على شاربهِ وتابع حديثه المرتب مسبقًا لآلاف المرات كالشِعر، والشعراءُ يقولونَ مالا يفعلون، ولأنه شاعرٌ بأسلوبٍ سياسيٍ صدقناه ظاهرًا وكذبناه باطنًا، وانغمسنا مع هذرهِ حتى أبعدِ نقطةٍ من نقاطِ تركيزنا و حواسنا، ثمَّ بعد انتهاء الخطاب انسحبنا بخمولٍ نمشي_ كمومياءَ متحركةٍ سئِمت من كونها مجرد مومياء متأهبةً للتجمهرِ والاستماعِ في أي لحظة_ صوب أعمالنا، أمَّا بالنسبةِ لي فقد رحتُ ألمِّع رؤؤس البطيخِ التي تحتفي بها عربتي الصغيرة، وأنا أترنمُ بأغنية فيروز: "والجيب مفيهش ولا مَليم"!
على منبرٍ آخر من منابر الشِعر المختل الوزن و القافية، كان كرشٌ منتفخٌ ومهتزٌ آخر يلقي خطابهُ مهتاجًا وقد بدا بهيأةِ الخارجين من معركةٍ اشتد وطيسها، وراحَ الصحفي المسكين أمامهُ يمسحُ بتوترٍ وامتعاض ذرات الأفراز المتطايرة التي كانت ترتمي على جفنيهِ، وتستقر أكثر فوق شفتيه حتى أنه سهُل عليهِ استنشاقها وإدراك رداءة رائحة اللعاب بأسلوبٍ خفي، بعد أن أنهى زعيقه انسحب وقد ارتدى نظارةً شمسيةً تحجب لغةَ عينيهِ لا الشمس، لحظتها وبأسلوبٍ تكتيكيٍ مدروس، مضى الجَمع المستمع كزومبي تعيس فقد الرغبة في التهام المزيد من الترهات و الهرطقات يتفرق شيئاً فشيئاً.. و هناك، وسط الحشدِ المتلاشي؛ انطلق أحدهم يحمل حقيبته المرقعة، واستوقف أحد البرجوازيين يتوسلهُ، ثم بعد محاولاتٍ كثيرةٍ أنزلَ حقيبته، أخرج محتواها وباشرَ عمله يلمِّعُ حذاء الغريب مقابل ريالاتٍ تشتري كرامته كإنسان، و سعادته كمواطنٍ أصلي!
في الجهةِ المقابلةِ من جهاتِ البلدة الطيبة، تجمهر شعبُ تلك المنطقة تحت حرِّ شمس الظهيرة_كالعادة_يرقبون بأعينٍ تكتسحها الكآبة وتحيطها السواد، ومن تحت حواجبٍ كثيفة تصف الحالة المزرية التي تلتبس كل واحدٍ فيهم، صعود آخر على المنصة المجهزة مسبقًا لكل حدثٍ مفاجئ، وخطابٍ سريع، و صراخٌ كان مقتضبهُ:
-كان من الممكنِ أن ينقص سعر الزيت و الدقيق لو أنكم تفكرون بعقلٍ استثماري!
ثم نزل وهو يرخي ربطة عنقه كي يخفف شيئًا من غضبه واختناقه، و مضى يحيطه موكبٌ مهيبٌ من رجالٍ ضخامٍ صلعان الرؤوس، يرتدون البذلات السوداء والنظارات الشمسية بينما تراقبهم أعين المواطنين الزائغةِ تحت أشعةِ الشمس بريبةٍ واحتضار. في طرف التجمهر كان ثمة مواطنٌ يرتدي أسمالًا بالية، ظلَّ يتابع موكب رئيس المنطقةِ حتى غاب في سيارةٍ فارهةٍ توارت عن الأنظار مخلفةً ورآءها دخانًا وأتربةً مزعجة، مصمص شفتيهِ اللتين كانتا تحتميانِ أسفل شاربٍ كثٍ وغير مرتب، ثم عاد يخيط الأحذية بتقاسيم لا مبالية للغاية، وبتعبير وجهٍ غير مكترث!
في كل مكانٍ، وعند كل زاويةٍ مهملةٍ من زوايا هذا الوطن التعيس تضحك الأرض منا وعلينا، كل يقسم بحبها وباسمها:
-أقسمتُ بسمِ الأرض أني لن أخذلكم، يا شعبي الطيب المغفل!
ولأننا شعبٌ طيب، طيبٌ للغاية وقد تجاوزنا بطيبتنا حد البلاهة و السذاجة، أصبحنا ضحيةً لا أكثر ولا أقل، سواءً أحببناهم أم لم نحببهم، صدقناهم أم لم نصدقهم، أحببنا الأرض أم مقتناها، نحن ضحية على كل حال،
شعب يوافقُ على الرغم من أنه لا يصدق، ويهتف على الرغم من أنه يعرف بأنه عبثًا يهتف، ويصفق رغم أن يديه مشغولتانِ بتكفيف الدمع المنسكب بشكل مستمر، إما إثر خوف أو فقد، أو مرضٍ، أو من أثر جوعٍ بكل صراحةٍ ووضوح!
ما يعمِّق الجرح أكثر؛ أننا شعبٌ يعاني من الداخل والخارج، شعبٌ لم تتبق وسيلة تعذيب، ولا أسلوب إيلامٍ وإيجاع لم يجربها، إننا شعبٌ يعاني بأقوى قوته، شعبٌ مهمَل بفتح الميم الثانية!..