نقطة أبو هاشم !!.....( قصص مأساوية )
قبل مغادرتي اليمن إلى قاهرة المعز، حذرني بعض الأقارب والأصدقاء من مخاطر المرور من النقاط الأمنية المنتشرة طوال الطريق الممتد من صنعاء إلى سيئون- عاصمة مديريات وادي وصحراء حضرموت- واحتمال اعتقالي من قبل نقاط الحوثيين بسبب كتابات ومنشورات سابقة هاجمتهم فيها، أو من قبل النقاط التابعة لحكومة هادي جراء كتاباتي المعارضة للسعودية وحلفائها، إلا أني اعتبرتها مخاوف لا مبرر لها وتحذيرات مبالغ فيها خاصة مع محدودية انتقاداتي وموضوعيتها لكلا الطرفين.
- عقب مغادرتي العاصمة بمعية أسرتي (زوجتي وأولادي الثلاثة واثنان من أولاد إخواني) على متن حافلة ركاب تابعة لشركة راحة للنقل البري باتجاه محافظة ذمار مررنا بكثير من النقاط الأمنية دون أية عوائق تذكر، واتجهنا بعد ذلك إلى مدينة رداع بمحافظة البيضاء، وبمجرد خروجنا من المدينة بنحو كيلو متر استوقفتنا نقطة أمنية تابعة للحوثيين ذات سمعة سيئة لدى المسافرين وعامة الناس تسمى نقطة "أبوهاشم" نسبة لقائد النقطة السابق.
- في البداية صعد مسلح أسمر البشرة إلى الحافلة، مطالباً الركاب تسليمه البطائق الشخصية أو جوازات السفر للتحقق من هوياتهم، وعندما سلمته الجواز ألقى نظرة سريعة عليه وأعاده إلي كما تجنب أخذ جواز زوجتي، وتكرر ذلك مع الركاب الآخرين المصطحبين لعوائلهم معهم، وعوضا عن ذلك قام بأخذ جوازات خالد(20 سنة) وحافظ (16 سنة) وتجنب أخذ جواز ابني الصغير محمد (10سنوات)، وأخذ أيضا جوازي محمد أبن أخي علي (21سنة) وعبدالرحمن ابن أخي نبيل (20 سنة)، إضافة إلى أخذه جوازات ستة ركاب آخرين، مطالبا أصحاب تلك الجوازات بالنزول من الحافلة، وبعد أن كانت المرأة لا تسافر إلا برفقة محرم معها، تغير الحال وأصبح الرجل في عهد الحوثيين بحاجة إلى امرأة لضمان المرور من نقطة أبو هاشم.
- في البداية انتظرت نحو ربع ساعة في الحافلة محاولاً تطمين زوجتي وابني الصغير بكونها إجراءات أمنية طبيعية هدفها التيقن من وجهة الشباب ومتوسطي العمر من الذكور المسافرين وضمان عدم التحاقهم بجبهة القتال مع الطرف الآخر، لكن منسوب القلق ارتفع كثيراً مع انقضاء النصف الساعة الأولى لمغادرة أولادي للحافلة فقررت التوجه إلى مكان التحقيق معهم للمطالبة بإخلاء سبيلهم وأخذي بدلا منهم، وبمجرد نزولي من الحافلة لاحظت وجود ثلاث مركبات أخرى للنقل الجماعي وعدد من ناقلات الوقود وسيارات متفاوتة الأحجام وجميعها واقفة على جانبي الطريق، وكان انتشار المسلحين في محيط النقطة واضحاً للعيان رغم الظلام الدامس في المكان.
- مشيت نحو 200 متر باحثاً عن المكان الذي يحتجزون فيه المسافرين، ووقعت عيناي على تجمع بشري يتراوح عدده بين الـ 150 والـ 200 شخص في مكان منخفض جوار الخط الإسفلتي من الاتجاه الآخر فذهبت إلى هناك ووجدت ابن أخي محمد هناك وأخبرني أنهم ينتظرون سماع أسمائهم للدخول إلى خيمة التحقيق، كما أخبرني بما قاله لهم المسلح الأسمر عند اصطحابهم إلى أمام الخيمة، حيث قال لابني حافظ ذو الـ 16 عاما أنت شكلك تعمل في غرفة العمليات، وقال لمحمد وأنت شكلك داعشي ولابن أخي الآخر أنت شكلك مسئول عن الشرائح، تخيلوا تهم كلها عقوبتها الإعدام ويتم توجيهها هكذا بكل بساطة لمراهقين.
- مضت نحو ساعة دون أن يتم النداء بأسمائهم، وفي الأثناء لاحظت وجود شخص مسلح وملثم الوجه اقترب منا وتحدث لابن أخي قائلاً باللهجة العامية وبنبرة خافتة "إذا تشتي تتخارج جيب ألفين ريال وأنا عتكتب اسمك في رسالة هاتفية لشخص داخل الخيمة وسينادي باسمك وتدخل تستلم جوازك وترحلك".
- في البداية شككت في الرجل وقلت إنه يريد النصب علينا فطلبت منه الدخول إلى الخيمة لأخذ الجوازات الأربعة وتسليمها لي كشرط لتسليمه الـ 8 آلاف ريال مقابل ذلك، لكنه رفض وقال إنه بمجرد إرسال الرسالة سيتم النداء بأسماء الأولاد، وتركناه وهو يكرر عرضه على الواقفين أمام الخيمة، ومع مرور الوقت دون أي جديد قررت القبول بعرضه كون لا خيار آخر أمامي علاوة على أن المبلغ المطلوب ليس بالأمر الكبير، وكانت المفاجئة سماع أسماء الأولاد الأربعة بمجرد إرسال الرسالة من المسلح الملثم إلى المتواجدين داخل الخيمة، وما هي إلا دقيقة حتى خرج الأولاد بجوازات السفر وأخبروني بوجود طفل لا يتجاوز عمره الـ13 سنة داخل الخيمة ماسك في يده عصا وقارورة ماء ومهمته الإساءة وإهانة المسافرين عند دخولهم وخروجهم من الخيمة، وخلال تواجدي في النقطة شاهدت رجلا في عقد الخمسينات من العمر يسقط بعنف على الأرض من سطح مركبته "نوع دينا" بعد أن غلبه النوم جراء احتجاز مركبته منذ عدة أيام في النقطة.
- المهم عدنا إلى حافلة الركاب وخليط من مشاعر الفرح والغضب تجتاحني في الوقت ذاته، فرحت لأن أولادي بخير ولم يمسهم أي أذى جسدي رغم الصدمة النفسية الظاهرة على قسمات وجوههم، وغضبت كثيرا بعد إدراكي أن الموضوع كان مجرد مسرحية قذرة هدفها الابتزاز ونهب المسافرين بطريقة وقحة ومثيرة للقرف، صحيح أن مبلغ الألفين قد يكون بسيطاٌ في نظر البعض، لكن خلال بقائنا نحو ساعتين ونصف في النقطة الأمنية إلى حين تم إخلاء سبيل بقية المحتجزين من المسافرين معنا في الحافلة تم ابتزاز نحو 300 مسافر، أي أن كل ساعتين يتم ابتزاز نحو 200 مسافر في المتوسط ما يعني 2400 مسافر في اليوم الواحد وبمبلغ إجمالي 480000ريال.
- في حين أن هناك أصحاب الشاحنات والناقلات وأخرى يتم ابتزازهم بمبالغ تتراوح بين 50و200 ألف وأكثر ومن يرفض يتم اعتقاله أو احتجاز مركبته لأيام وأسابيع إلى حين تدبير المبلغ المطلوب منه، وبحسبة تقديرية حسب عدد السيارات والناقلات المحتجزة في اليوم الواحد في النقطة يتجاوز إجمالي المبلغ المصادر نحو مليون ونصف ريال تضاف إلى النصف المليون المصادرة من المسافرين ليصل إجمالي الإتاوة المحصلة ما يقارب المليوني ريال يوميا من نقطة أمنية واحدة.
- لا أعرف صراحة المبرر الديني لهذه الإتاوة هل تندرج ضمن ما يعرف بالخمس؟ لكن ما ينهبه الحوثيون من أموال الشعب تجاوز الـ 5% إلى الـ 95% وتركوا الخمس لزنابيلهم ولم يبق لنا سوى راتب واحد يتم صرفه للموظفين خلال العام على دفعتين، ومن ثم لا أستبعد أن يكون الأمر له علاقة بالجزية المذكورة في القران، لكن معنى ذلك في هذه الحالة أن الاثني عشرية تنظر إلى اليمنيين سواء كانوا شافعية أو زيدية أو صوفية على أنهم كفار تأويل كما يبدو.
- طبعا بعض العبيد سيسارع للدفاع عن أسياده ويقول إن هؤلاء متحوثين وليسوا حوثيين وإنهم مدسوسين لتشويه أنصار الله، لكن مثل هذه المواقع الحساسة والمدرة للمال لا يديرها إلا قناديل مقربة من قيادة الجماعة أو زنابيل تربطهم علاقة نسب أو مصاهرة مع القناديل، كما أن اسم النقطة يدل على أن قائدها قنديل ابن قنديل، كما أنها تجربة خضتها شخصيا ولا جدوى ممن قد يحاول التشكيك في دوافعها ومن يقف ورائها، المهم هنا أن هذه النقطة وما يحدث فيها من امتهان لكرامة اليمني ليست سوى نموذج واقعي يعكس حقيقة الحوثيين كميليشيات مسلحة لا هم لها سوى السلطة وجباية المال واستعباد اليمنيين.
- أما بالنسبة لنقطة مأرب، فرغم سماعي لبعض الروايات التي تتحدث عن ترويع المسافرين واحتجازهم لنحو ساعة أو أكثر، لكن ما حدث معنا عند وصولنا إلى النقطة كان أن صعد عسكري إلى الحافلة وقام بأخذ بعض الجوازات بشكل عشوائي وكان جوازي وجوازات أولادي ضمن الجوازات التي أخذها معه إلى خارج الحافلة، إلا انه لم تمر سوى خمس دقائق حتى قام بإعادتها إلى مساعد سائق الحافلة وغادرنا النقطة دون أن يتم التحقيق مع أي من الركاب، وتكرر الأمر في نقطة خارج مدينة العبر بحضرموت، حيث صعد عسكري من بني مطر وكان بشوش الوجه ولطيفاً بكلامه ودمثاً بأخلاقه خلال تصفحه للجوازات وحديثه مع الركاب.
- كان أكثر ما لفت انتباهي حضور العلم اليمني بكثافة من أول نقطة بمأرب وحتى داخل مدينة سيئون، أما أكثر ما أسعدني فكانت طيبة وشهامة ونخوة أهل سيئون الكرام، فلم أتوقع أن أجد أناسا ينافسون بطيبتهم طيبة أهلنا في تهامة، وكم كانوا بسطاء لدرجة تلمس معها مدى سعادتهم بالحركة في مطار المدينة والفائدة العائدة منها لأصحاب الفنادق وسيارات الأجرة خصوصا وكم شعرت بالحزن للظلم والتهميش الذي عانت منه سيئون وحضرموت طيلة العقود الماضية.