الغثيث، اغتبق، التخ.
من أمس وأنا أحاول تكوين جملة من الكلمات الثلاث. كل الكلمات مستهلكة، وفي كل يوم نعيد تدويرها على الورق، نرصها من جديد لبناء معنى متغير بذات الكلمات: المليشيا، الحرب، المخلوع، القتل، النبش، الحب، المعاناة، منظمات الإغاثة، التحالف، قذيفة عشوائية، ضربة جوية خاطئة، ومؤخرًا النبش.
تتكرر هذه الكلمات عند الروائي والشاعر، الكاتب المتمرس والطبيب، في العالم الافتراضي وعلى مواقع الأخبار، النشرات والبرامج مفتوحة النص، العاشقة دينًا والناشط نقدًا.
حتى بائع الغاز، صاحب سيارة شاص خردة موديل 62، يستخدم المفهوم المركب الذي يستخدمه أبرع محلل سياسي يقيم في السعودية: سيناريوهات محتملة.
قال ذلك عقب عطل أصاب السيارة، كانت سيارته بلاده التي يستوطنها ويتنقل عليها، مصدر رزقه المقتنع به، يراها أجمل من حداثة لاند كروزر: خيبتي ولا مليحة الناس.
كما أنه طبع جملة عليها، قبل طفرة الحديث في الحرب، طبع الجملة بالرنج الأخضر: عضة أسد ولا نظرة حسد.
لكنه مطلع الأسبوع، تحدث عن السيناريوهات المحتملة كتخمين لموطن التلف الذي أصاب السيارة: الهُبس، الفضة، الكربيتر.
نريد أن نعيد إظهار كلمات جديدة للخروج من الأزمة التي استنزفت ذخيرتنا اللغوية.
إذا لم أكن مخطئ، فقد اعترف راي برادبيري بأنه حين يلفى نفسه مشتتًا عن الكتابة، يلجأ إلى القاموس، يفتحه عشوائيًا ويكتب الكلمة التي يصادفها، يغلقه ثم يفتحه ويكتب الكلمة الثانية، وهكذا، يجد خيطًاً بين الكلمات الموالفة فيعيد صياغتها من جديد.
أرشد برادبيري الكُتَّاب على لعبة القاموس، كنشاط لدماغ الكاتب عند الأزمة.
يتنقل برادبيري في الولايات الأمريكية، يستطيع أن يصف ما حوله وأن ينتقد بحرية، أن ينشر كتابًا ويعتاش منه، وفي الوقت الذي يكون فيه جائلًا في وول ستريت كي يتمكن من نقل أجواء البورصة ويغتبق في حانات لاس فيغاس، أنا في ديمة الوادي، أتحرك منذ ثلاث سنوات داخل ثلاثة كيلو منذ بداية الحرب، أشرب ماء آسن داخل علبة منذ ثلاثة أشهر على ما يبدو، وبداخله بلهارسيا حمراء تشبه لون الأسهم الهابطة في وول ستريت، غير أنها لا تخضر أبدًا.
من هذا الاغتباق، الذي نشربه في الديمة، لا نريد.
لكن لعبة القاموس نحن أحق بها من أي كاتب يعيش خارج اليمن في هذه المرحلة تحديدًا.
لقد قمت بفتح قاموس "مختار الصحاح للرازي"، وبدأت بلعبة القاموس، الكلمات المنتقاة عشوائيًا هي: الغثيث، اغتبق، التخ. شعرت بأني برفقة الملك الضليل، أنا وامرؤ القيس وقد ضل الملوك من حولنا وضلت البلاد، لم ينقصنا غير خدر عنيزة والمطية الأمون.
الغثيث: اللحم الفاسد.، والتخ: العجين الحامض، والغبوق: الشرب بالعشي.
حتى وأنا أبحث عن الخيط، وجدتني أعود للكلمات المستهلكة: الشعب يأكل التخ ولم يجد حتى الغثيث، والمليشيا تغتبق من دمه ضحوة وعشيا فيما المخلوع.... لو أكملنا الفقرة ستبدو كما لو أننا نكتب في صحيفة تباع بسوق عكاظ، ولا أعتقد أن أبا جهل سيعرف معنى المليشيا.
كما لو أن القاموس متواطئ مع الواقع الذي نعيشه، جربت أن أصل إلى كلمة جديدة، وفتحنا إلى: هـ و ش: "الهوشة"، وهي الفتنة والهيج والاضطراب، هي ما يحدث في اليمن الآن، شدني الحديث الذي استدل به صاحب القاموس على المهاوشة، حديث للنبي يقول: من أصاب مالًا من مَهَاوِش أذهبه الله في نَهَابِر.
ونهابر، الكلمة الوحيدة التي بحثت عنها في القاموس، تعني المهالك.
وإذن مسألة التهويش تاريخية من زمن الرسول وقبله.
الهوشة تعني أن تكون البلاد في حرب كما نعيش، وهناك من يسرق وينهب، يجمع مجهود حربي ويبني شققًا، يكسر قفل بيت ويسلب دكاكين الناس، يحول الحرب إلى مصدر ثراء، يحتكر السلع ويجني الأرباح الطائلة من السوق السوداء، يبتز المساكين مقابل وهم خدمتهم، يتلقى الدعم الخليجي أو الإيراني ليرفد نفسه بموكب كبير فاره، وبقية المهاوش التي ظهرت مؤخرًا، من يفعل ذلك سيذهبه الله في "نهابر".
انظروا إلى ثمرة القاموس، حتى ونحن نبحث عن كلمات جديدة، يتحفنا بما نعيش، ليبدو حشر الهواشين كما لو أنه عمدًا، وهو في الأصل تجربة مع القاموس كاستجابة لنصيحة كاتب أمريكي.
الهواشون منتشرون في مختلف البلاد، على طرفي الصراع وفي الوسط، قد يزعل الكثير من سياق الهوشة، هم أيضًا يمتلكون مشاعر وأحاسيس، ومع أن السياق لم يكن مقصودًا فلن نعتذر إذا ما فهموا حديث النبي فهمًا صحيحًا، هذه هي لعبة القاموس ولن أفتحه ثانية، وأحب أن أقول لهوّاشين البلاد: المال الذي تجمعونه من الهوشة سيهلككم الله به، مش بعدين تقولوا ما قلكلناش.
ماقلكلناش، لا علاقة لها بالقاموس الذي أقفلته، كلمة شعبية مركبة، تعني: لم تقل لنا.