ما يسمى بوعد بلفور ليس وعدا، بل قراراً رسمياً اتخذته حكومة بريطانيا لإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، فهناك فرق شاسع بين الوعد وبين القرار الذي تعهدت باتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذه. ويؤكد بلفور في رسالته للورد روتشيلد هذا التوصيف في نص الرسالة ويقول : “ انه من دواعي سروري الكبير أن انقل إليكم باسم حكومة صاحب الجلالة الإعلان التالي عن التعاطف مع الأماني اليهودية والصهيونية الذي تم عرضه وإقراره بواسطة مجلس الوزراء “. “ويقول في مكان آخر من القرار” إن حكومته ستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف “.وكان مجلس الوزراء البريطاني قد اتخذ قبل ذلك بشهرين، قرارا بتكوين فيلق يهودي يشارك في الحرب العالمية الأولى، ليكون قوة عسكريه يهودية مستعدة للمستقبل جاهزة له، ونواة لجيش الدولة اليهودية.
الظروف الداخلية البريطانية التي أدت إلى صدور هذا القرار، كانت تحمل كل معاني التعصب الديني والأطماع السياسية. وتقول المؤرخة البريطانية الشهيرة كارين ارمسترونغ في كتابها “الحرب المقدسة“. “إن الذي جعل بريطانيا تفي بوعد بلفور برغم كل المعوقات خلال تلك الفترة الحاسمة من التاريخ يكمن بالتأكيد في التقليد الطويل والمعقد للصهيونية البريطانية التي مست وترا حساسا في الهوية البروتستانتية للانجليز. لا مراء في أن بلفور كان في عام 1917 النموذج السياسي المتلاعب المناور، وكان يأمل في أن يكسبه وعده الدعم اليهودي لبريطانيا في الحرب، كما كان واعياً للأهمية الإستراتيجية التي تستأثر بها فلسطين. لكن قبل ذلك كان بلفور يستلهم في عمله التقاليد المسيحية البروتستانتيه. فقد تربى في أحضان الكنيسة السكوتلنديه وأثرت فيه بقوة، الصورة التوراتية لفلسطين اليهودية”. وقد استطاع بلفور أن يعوّل على تأييد ومساندة جيل من السياسيين الانجليز لفكرته كان يضم رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج الذي ألقى خطاباً أمام الجمعية التاريخية اليهودية عام 1925قال فيه “ نشأت في مدرسة تعلمت فيها تاريخ اليهود أكثر من تاريخ بلادي، فإنني لا أنظر الآن إلى فلسطين إلا باعتبارها يهودية“.
وكانت السياسة البريطانية قبل الحرب وأثناءها وبعدها تعرف ما تريد، تفكر فيه وتناقش احتمالاته، وتتردد مرة ثم تحزم أمرها وتتصرف. كانت التصورات البريطانية القديمة لا تزال سارية. بل إن عملية تجديد طرأت عليها بتوصية تقدم بها رئيس وزراء بريطانيا “كامبل بانرمان“ في الفترة السابقة على الحرب مباشرة وجاء فيها بالنص “ إن إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معاً بالبحر الأبيض والبحر الأحمر،، هو مطلب يجب أن يكون هادياً لنا باستمرار. ويتعين علينا أن نضع في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة معادية لأهل البلاد وصديقة للدول الأوروبية وعارفة لمصالحها. ومن المحتم أن نجد الوسيلة العملية لتنفيذ هذا المطلب.” ولم يكن ذلك يعني شيئا آخر غير إنشاء دولة يهودية في فلسطين.كانت تلك بعضاً من الظروف البريطانية التي أدت لاتخاذ قرار بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ولم يكن للحكومة البريطانية أن تسمح لنفسها أو تثق بقدرتها على اتخاذ هذا القرار والبدء باتخاذ الإجراءات التدريجية لتنفيذه، خاصة بعد أن استطاعت توثيقه في عصبة الأمم كوثيقة دولية وحصلت على موافقة الولايات المتحدة عليه. لم تكن تستطيع ذلك لولا الظروف المأساوية التي كانت تعيشها الأمة العربية في تلك الظروف الانتقالية بين بدايات الحرب العالمية الأولى ونهاياتها. فلم تكن هناك دول عربية أو كيانات رسمية تستطيع أن تواجه هذه السياسات والمخططات لدولة عظمى توشك أن تحقق انتصاراً تاريخياً في حرب عالمية استمرت أربع سنوات. فقد كانت الأمة العربية لا تزال تعتقد أنها شاركت في الحرب ضد تركيا وأنها اختارت بمشيئتها الحرة هذه المشاركة، وأن عليها أن تكافأ بتحقيق أشواقها وتطلعاتها نحو الاستقلال بعد أربعة قرون من الاحتلال التركي الذي لم يكن له منتج في النهاية سوى الجهل والفقر والمرض وغياب العرب عما يجري في العالم القريب منه والبعيد نخبا وشعوبا. فبينما كانت القرون الأربعة الماضية مساحة واسعة من الزمن لتقدم الأوروبيين كانت تلك القرون زمنا عربيا للتراجع هم والسلطة العثمانية التي بدأت قوية ثم نخرها الفساد والتخلف عن الدول الأوروبية رغم أن هذه الدول كانت على مرأى العين والتفكير، قريبة منها وتمارس عليها نتاج تقدمها بصلافة وغرور.
وكان أول رد فعل للأمة هو أنها راحت تتلفت بمشاعر الأمل والقلق صوب النخب والقيادات ممن كانوا على الواجهة. تنتظر ردهم على صدمتين كبريين إحداهما خاصة بالأمة كلها وهي اتفاقية سايكس بيكو، والثانية خاصة بفلسطين وهي ما سمي بوعد بلفور، رغم أن الصدمتين كانتا متقاربتين بل متلازمتين في مفاعيلهما وأهدافهما المتوسطة والبعيدة المدى على الأمة كلها.
ومن الحق أن ذلك كان فيه تحميل للأمور بأكثر مما تحتمل. ذلك أن المخططات الدولية كانت أقوى من علم وطاقة الأمة كلها التي كانت في ذلك الوقت تبحث لها عن موقع في عالم مضطرب تغلبت فيه القوة على أخلاقيات الحرب والسياسة وتنظر إلى المستقبل أكثر مما تنظر إلى الحاضر التي كانت فيه فاقدة الوعي عن معظم معاني وإبعاد ما يجري فيه.
لقد جرت بعد ذلك مياه كثيرة في ساحات الأمة ولم تكن لصالح حاضرها أو مستقبلها، حيث نفذت سايكس بيكو وتوابعها وما سمي بوعد بلفور الذي لا نزال نصر على أنه مجرد وعد وليس قراراً إستراتيجيا حكمته العقائد التوراتية التي اختلطت بالمسيحية. كما حكمته الأطماع السياسية لدول استعمارية تحتفل الآن وترقص على شواطئ برك الدم الفلسطيني والعربي، وتدعي تمسكها بتاريخ وحاضر من الأخلاقيات والتحضر. إننا نعيش اليوم العالم ذاته الذي ولد فيه "وعد بلفور" وقبله "سايكس بيكو" وإن تغيرت الملامح والوجوه، وتعمقت الادعاءات وسبل التضليل.