تتفق البشرية اليوم على أن الاستثمار في البشر يأتي في مقدمة جميع الاستثمارات، وإذا فشل المجتمع فيه فقد فشل في إدارة واقعه، وصياغة مستقبله؛ لذا فإن العالم المتقدم يولي التعليم أهمية بالغة، وبقدر الاهتمام تكون النتائج.
محور العملية التعليمية هو المتعلم، والدينامو المحرك والموجّه هو المعلم، والمحوران كالعين والنور، فلا يمكن للعين أن ترى شيئاً في الظلام الدامس، بينما تدرك الأشياء بحقيقتها عندما تتحرك في النور، وهذا هو المعلم تحديداً.
المعلم هو ذلك النور الذي بدونه لا يمكن للعيون أن ترى شيئاً، ودائماً ما يتردد على ألسنة الناس: " العلم نور، والجهل ظلام".
الدول مَعْنية بالحفاظ على مصادر النور وتطويرها، ويأتي "المعلم" على رأس تلك المصادر.
على خلاف المعلمين في دول العالم، يعيش المعلم في اليمن حالة اقلّ ما يمكن وصفها بالشاذة، فلا راتب يفي بأقل متطلبات الحياة، ولا تأهيل، ولا بدلات، ولا تأمين صحي، وحتى مكانته الاجتماعية فَقَدها مع سيطرة الجهل على مفاصل الحياة.
المعلم هو الوحيد في اليمن الذي ليس له غير راتبه، وملتزم بالدوام من السابعة حتى الواحدة ظهراً بشكل رسمي، ويظل مع كتبه وتحضير دروسه في فترة المساء.
لليمن حكومتان، وللتعليم نقابتان، والمعلم يضيع بين هذه الكيانات، ويُزج به في أتون تلك الصراعات، وهو لا ناقة له فيها، ولا جمل.
لم يعد المعلم اليوم يطالب الحوثي، وحكومة هادي بالبدلات، ولا العلاوات، وإنما يطالب بأقل ما يسد رمقه من حقوق له تسمى: "مرتبات".
اليمن هو حزب المعلم الأكبر، ولا دخل له في معارك يديرها السادة الزعماء، ولا طموح له في المنافسة على عرش الجمهورية أو المملكة، إنما يريد أن يعيش بمرتبه عيشة تقيه التسول، وامتهان الكرامة.
وقع المعلم بين مطرقة الحوثي وسندان هادي، وإذا بعام دراسي ينقضي يتلوه عام، وهو يستجدي الحكومتين راتبه الشهري ليؤدي رسالته التعليمية لبناء ما دمره هؤلاء.
الحوثي يتعذر بهادي وسلمان، وهادي يعود باللائمة على طرفي الانقلاب، والمحصلة ضياع حقوق المعلمين، وغياب التعليم.
توفير "الرواتب" ليس معضلة، فالحوثي يستطيع أن يُخفّض من الاعتماد للمشرفين والمشرفات الأحياء منهم والأموات، وهادي يمكنه أن يقلص من السفارات والقنصليات، والملحقين الثقافيين، والإعلاميين والعسكريين، والملحقيات، وبذلك توفر الحكومتان ملايين الدولارات، وبها تستمر العملية التعليمية ويرفع المعلمون كل مظاهر الاحتجاجات والإضراب.
كما تحشد القوى المتصارعة كل الإمكانات لجبهات القتال، والذي يفضي إلى الموت، فكذلك جبهة التعليم تحتاج إلى حشد كل القوى لتأمين "الراتب" والتعليم يفضي إلى الحياة بعكس جبهات الموت.
تحية لكل معلم ومعلمة يصبر على شظف العيش؛ لينير دروب أبنائنا بالعلم.
تحية لكل المعلمين المرابطين في ميادين التعليم، وصبرهم على بلادة الحكام المسيطرين على مقاليد البلاد من الجهال، وأنصاف المتعلمين.
من المعيب أن تدفع الحكومتان معلمي الأجيال للكف عن التعليم والإضراب، والوقوف كالمتسولين على أبواب أصحاب القرار من الذين كان بعضهم يوماً على كراسي التعليم ينهلون من علم المعلمين، أو أولئكم الذين ليس لهم من التعليم نصيب.
"رواتب" المعلمين ليست للمزايدة الحزبية، وليست قابلة للانتقاص، أو الابتزاز، أو الوعود بصرف نصفها، وتمويل المولات بالنصف الآخر منها، بل يجب على السلطة الحاكمة أن تعطي المعلم حقه كاملاً، وما دام وهناك قدرة على صرف النصف الثاني من الراتب للتجار، وأصحاب المولات فالمعلم أحق به.
الصدق في التعامل مع المعلم واحترام مكانته وتقديره يعقبه صدق في الأداء، ونهضة في التعليم، وتطويره.