خلال العقود الثلاثة الماضية كانت الصومال تعتبر بمثابة النموذج الأكثر فداحة لمعنى الحرب الأهلية، ومتوالياتها السقيمة على كل أوجه الحياة، وقد تتابعت الجهود الوطنية الصومالية منذ أمد بعيد، بالترافق مع المبادرات الإقليمية والدولية، بحثاً عن حلحلة الملف الصومالي، والوصول لاتفاقيات تلزم أطراف الصراع المحلي على الانخراط في العملية السياسية على قاعدة التنازلات الشجاعة، والتوافقات البناءة، لكن مؤتمرات نيروبي وأديس وصنعاء وجيبوتي لم تسفر عن تحقيق تلك الآمال، فجاء الجواب من الداخل، وتحديداً من قبل الممسكين على جمرة الحقيقة على الأرض، وبهذا بدأت متوالية التصالح الوطني لتشمل عموم الطيف السياسي والمكونات الاجتماعية، وصولاً إلى تحقيق سلسلة باهرة من المقدمات المؤشرة لمستقبل بناء.
خلال مخاض العسر والتقلبات على جمر الظنى، والإدراك العميق بأن حلول الخارج ليست سوى عاملاً مساعداً، وأن الحل والعقد يكمن في الداخل.. خلال تلك المرحلة توصلت الارادة الوطنية الصومالية إلى الحقائق التالية نظرياً وتطبيقياً:
التبادل السلمي للسلطة الرئاسية والبرلمانية والحكومية، بحيث تحولت هذه السلطة من تجربة رمزية معنوية إلى حقيقة موضوعية، حيث تبادل الرئاسة عديد الرؤساء خلال العقدين الماضيين، وبالمقبل تناوب في رئاسة الحكومة والبرلمان عشرات رؤساء الحكومة والبرلمان.
زيادة اللحمة الوطنية وتخطي الاصطفافات القبائلية، والبقاء عن حد الرمز الوحدوي الشامل للعلم الصومالي الأزرق ذي النجوم الخمسة، وبهذه المناسبة يجدر بالذكر أن (جمهورية أرض الصومال) التي أعلنت انفصالها في الشمال منذ أكثر من عقدين مازالت تأوي الصوماليين من مناطق الجنوب والوسط، ولا تفرق بينهم في الهوية الوطنية، وتمنحهم كامل حقوق المواطنة الموازية لسكانها الأصليين، بل إن نبرة الانفصال فيها تراجعت إلى حد كبير، حتى أن الحكماء فيها ينظرون للنموذج الاتحادي الفدرالي كقيمة مستقبلية مؤكدة.
التنامي الواضح في النمو الشامل سمة يمكن ملاحظتها في العاصمة مقديشيو ومدن بوصاصو في الوسط، وهرجيسا في الشمال، حتى أن بعض المنظمات الاحصائية الدولية اعتبرت مقديشيو واحدة من أكثر العواصم العربية الإفريقية الواعدة بنمو كبير.
لاحظ المراقبون تراجع الهجرة الجماعية من البلاد، بالتوازي مع عودة اللاجئين والمستثمرين، بمن فيهم الكوادر التي تأهلت في بلدان أوروبا وأمريكا وكندا خلال العقود الثلاثة الماضية للهجرة القسرية .
وبالر غم من هذه المقدمات والمؤشرات الايجابية مازال التحدي الأكبر ماثلا في مستويين:
يتعلق المستوى الأول في تنظيم الشباب المجاهد السلفي الذي يتحصن في القرى والمناطق النائية، ويجد حواضن مناسبة في الغابات والبراري، ولا يخفي اعتقاده بأن نظام الحكم الحالي يمثل طواغيت المال والسياسة المفارقين للملة ، علما بان هذا التنظيم خرج أساسا من رحم الدين السياسي للمحاكم الإسلامية، لكنه رفض المحاكم بمجرد اختيار قياداتها للمسار السياسي السلمي كوسيلة للحل والعقد في عموم البلاد.
يتعلق المستوى الثاني بإصرار بعض قيادات (جمهورية أرض الصومال) غير المعترف بها دولياً، على خيار الانفصال، بالرغم من مرور ثلاثة عقود على إشهارها، وبالرغم من التجربة العملية الوازنة للحضور الوطني الصومالي في عموم شمال الصومال وعاصمتها هرجيسا.
الصورة الماثلة في صومال اليوم تؤشر إلى نضج سيكولوجي حقيقي عند فرقاء الداخل، وإدراك الثمن الباهظ الذي تم دفعه جراء التقاتل العدمي وتدمير الدولة، والذهاب بعيدا في خيار التوازن المنطقي ضمن دولة اتحادية فدرالية تحقق المواطنة والمشاركة، والتخلي غير المأسوف عليه عن ثقافة الحرب الأهلية، رغما عن وجود ظلال باهتة لتك الثقافة هنا وهناك.
من المعلوم في تواريخ البشرية المرصودة أن الماضي السلبي لا يخبو أو يتلاشى بين عشية وضحاها، بل ينحسر تباعا بقوة دفع الجديد المتجدد.. هنالك حيث يتغير وعي الناس، تناسباً مع حياتهم الجديدة الخالية من القتل والرصاص والنهب والسلب، وهذا ما يمكن رؤيته بعين اليقين في الصومال الجديد الذي يخرج من أحشاء البؤس والظلام.